المفاتيح الأربعة لفهم الأزمة الأثيوبية

بقلم/ د. حمدي عبد الرحمن
‏ طبقا للبيانات الصادرة من مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي قتل أربعة أشخاص بمن فيهم رئيس أركان الجيش ‏وحاكم إقليم أمهرة في الشمال وذلك خلال محاولة انقلاب للسيطرة على إقليم أمهرة.

ماهي دلالات ذلك وكيف ‏نضعها في السياق العام لموازيين القوى في أثيوبيا؟.

الدلالة المباشرة أنها تعكس مدى تقلب السياسات العرقية ‏والإقليمية الهشة في البلاد، مما سوف يؤثر سلبا على سياسات الانفتاح التي يتبعها رئيس الوزراء أبيي ‏أحمد.

كيف نفهم إذن صيغة الفيدرالية العرقية السائدة في أثيوبيا؟

في عام 1991، بعد الاطاحة بالنظام العسكري الحاكم في إثيوبيا قامت النخبة الجديدة بزعامة ميليس زناوي ‏بهندسة نظامً جديد يقوم على أساس الفيدراليًة العرقيًة التي تعترف لكل جماعة عرقية بالحكم الذاتي، في إطار ‏المحافظة على وحدة الدولة. لقد أنشأ الدستور الجديد نظامًا فيدراليًا يتألف بشكل كبير من وحدات إقليمية على ‏أساس عرقي. وينص الدستور على حق أي وحدة عرقية في طلب الانفصال.

ويتألف الاتحاد الإثيوبي من ‏تسع ولايات بالإضافة إلى مدينتين لهما وضع خاص على النحو التالي: التيغراي والعفر والأمهرة وأوروميا ‏والصوماليين وبني شنقول – قماز والشعوب والقوميات الجنوبية (التي تشكلت عبر اندماج “طوعي “لخمسة ‏مناطق) وغامبيلا وهرر وأديس أبابا. وفي وقت لاحق، أصبحت دايري داوا مدينة فيدرالية. ‏

إثيوبيا لديها تنوع عرقي كبير حيث تضم نحو 88 مجموعة عرقية. اثنتا عشرة من هذه المجموعات العرقية ‏قد لا يصل تعدادها المليون نسمة، من أصل 100 مليون نسمة أو يزيد هم كل تعداد إثيوبيا.

وتشكل ‏المجموعتان العرقيتان الرئيسيتان (الأورومو 34.5% والأمهرة 26.9%) أكثر من 62 في المائة من جملة ‏تعداد السكان. وتشكل التيغراي ثالث أكبر مجموعة عرقية، على الرغم من هيمنتها السياسية على مقاليد ‏الحكم منذ عام 1991وحتى انتخاب أبيي أحمد رئيسا للوزراء عام 2018، فإنها لا تضم سوى 6 % فقط من ‏السكان . ‏

‏ ومنذ تأسيس إثيوبيا الحديثة، قامت النخب الحاكمة بالتعامل مع قضايا التعدد والتنوع العرقي والثقافي والديني ‏وفقا لقناعاتهم السياسية والأيديولوجية. بيد أنها لم تخرج عن اتجاهين واسعين:‏

‏ أولهما سياسة الوحدة المركزية وهي التي اتبعت منذ الحكم الامبراطوري وحتى سقوط نظام الديرغ في ‏عام 1991. كانت هناك مرحلتان من هذا النظام. في المرحلة الأولى (حتى الإطاحة بالنظام الإمبراطوري)، ‏حاولت سياسة الدولة تحقيق الوحدة دون الاعتراف بالتنوع، وهو ما أسفر عن خلق نظام للهيمنة والقمع. في ‏المرحلة الثانية (خلال نظام الديرغ)، اعترفت سياسة الدولة نظريا بالتنوع العرقي ولكن التنفيذ كان أبعد ما ‏يكون عن جوهر هذه السياسة، وبالتالي فشل في تحقيق مهمة الاندماج الوطني.‏

‏ ثانيا الفيدرالية العرقية التي تم استخدامها منذ عام 1991. ويركز هذا النظام على الوحدة من خلال ‏التنوع. بيد أن التحدي الأكبر الذي يواجه هذه السياسة المبنية على أساس الديموقراطية العرقية يتمثل في ‏إشكالية الحفاظ على توازن دقيق بين الوحدة والتنوع. وهو ما يستدعي ضرورة عدم تسييس العرق وتدعيم ‏مكونات المواطنة والوحدة الوطنية وعدم التلاعب بالمظالم التاريخية العرقية لإثارة الاستياء والخوف ‏والكراهية تجاه “الآخر”.‏

تمثل إدارة التنوع العرقي قضية سياسية بالغة الصعوبة والتعقيد للمجتمعات متعددة الأعراق.

ومنذ أعوام ‏التسعينيات، تمت دراسة الفيدرالية متعددة الثقافات كأداة سياسية لاستيعاب التنوع العرقي.

وقد انشغلت ‏الأدبيات بالتأثير المحتمل للفيدرالية في المجتمعات المنقسمة على الصراع السياسي.

فقد اتجه نفر من ‏الباحثين إلى القول بأن الفيدرالية تسمح باستقرار سياسي للدول متعددة الأعراق لأنها تقوم على لا مركزية ‏السلطة وتوفر هيكلا لإدارة الصراعات بين الجماعات المتنافسة. ومن ثم، تسهل عملية إدارة التنوع الإثني ‏لأن الجماعات العرقية تحصل على الاستقلال الذاتي، والاستقلال السياسي ويكون بمقدورها الوصول إلى ‏الأدوات المؤسسية لمعالجة المطالب المتنافسة أو المتباينة.

وعلى النقيض من ذلك يرى بعض الباحثين أن ‏الفدرالية متعددة الثقافات لها تأثير معاكس: حيث تزيد من حدة وكثافة الصراعات العرقية في العديد من ‏البلدان. لماذا يبدو الأمر كذلك؟ يحاجج هؤلاء بأن الطبيعة المتغيرة للهوية العرقية لا تتفق مع مسألة الجمود ‏المؤسسي.

هذه السيولة تتناقض مع مفهوم الحدود العرقية الثابتة والمتعارضة. علاوة على ذلك، ثبت أن ‏إضفاء الطابع المؤسسي على العرقية من خلال الفيدرالية متعددة الثقافات تؤجج الجوانب السياسية للهوية ‏العرقية في سياقات معينة، وبالتالي توفر الحافز للجهات الفاعلة لزيادة الانشقاقات العرقية‎.‎

هذا الجدل حول العلاقة بين الفدرالية والإدارة العرقية يستخدم أمثلة متباينة من حيث درجة النجاح والفشل. ‏

فأولئك الذين يدعون أن الفدرالية لها تأثير إيجابي على الإدارة العرقية يضربون مثلا بحالتي سويسرا والهند ‏كأمثلة ناجحة، بينما يذهب الجانب الآخر إلى استخدام حالات العديد من البلدان النامية متعددة الأعراق ‏والدول الشيوعية السابقة مثل الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا.

ونظرا لأن النظام الفيدرالي ‏العرقي، الذي تبنته إثيوبيا يمنح وحدات الاتحاد الحق في الانفصال من الناحية الرسمية، فإنها أضحت حالة ‏جديرة بالدراسة لتعميق فهمنا لهذه الديناميات. ‏

‎ ‎من المهم فهم تكوين النظام الفيدرالي الإثيوبي من أجل الكشف عن خصوصيات علاقته بمسألة الصراعات ‏العرقية.

ولا شك أن السياقات التاريخية والسياسية التي ارتبطت بنشأة هذا النظام تعد ذات أهمية بالغة لأنها لا ‏تزال تشكل المظالم العرقية والعلاقات بين الفاعلين‎.‎

أولاً، يمتلك الإرث التاريخي للسيطرة العرقية أهمية حاسمة لفهم الوضع الحالي للنظام الفيدرالي الإثيوبي. ‏فمن المعروف أنه تحت حكم نظام هيلا سيلاسي الإمبراطوري، قامت الطبقة الحاكمة من الأمهرة التي ‏تمتعت بالتميز العرقي بممارسة التهميش السياسي والاقتصادي للمجموعات العرقية الأخرى، مما أدى بعد ‏ذلك إلى إثارة المظالم والتعبئة العرقية منذ الستينيات. على أنه بعد الإطاحة بنظام الديرغ بزعامة مانجستو ‏هايلي ميريام في أوائل التسعينيات، قام الائتلاف الحاكم الجديد بإضفاء الطابع المؤسسي على النظام الفيدرالي ‏العرقي القائم على الهوية العرقية فقط، كبديل للنموذج السابق القائم على مفهوم الدمج العرقي‎.‎

ثانياً، لقد أثرت الأيديولوجية الماركسية-اللينينية ونظرية ستالين الخاصة بالقوميات بشكل كبير في لغة ‏الخطاب السائد والممارسات العملية المتعلقة بالعرق وتقرير المصير الإثني في إثيوبيا ولاسيما من خلال ‏الحركات الطلابية في الستينات: وعلى سبيل المثال تم اقتباس العديد من المفاهيم المستخدمة لمناقشة مشاكل ‏العلاقات العرقية في إثيوبيا من الثوريين الروس. لذلك، لم يكن الطلاب يعتبرون إثيوبيا مشابهة فقط لروسيا ‏القيصرية بحسبانها “سجنا للقوميات”، بل إنها تسعى أيضًا إلى “حل” المشكلة من خلال المبادئ الستالينية ‏الخاصة بتقرير المصير، والتي تعالج حق “الأمة” في تحديد نمط حياتها بالطريقة التي تريدها. وعليه فقد ‏أصبح هيكل الفدرالية الإثنية الذي تبنته الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي مجرد نسخة طبق ‏الأصل عن النموذج الاشتراكي. وبغض الطرف عن تجربة الاتحاد السوفيتي السابق، أضحى الاتحاد ‏الإثيوبي الدولة الوحيدة التي منحت دستوريا الحق في الانفصال للجماعات العرقية. أضف إلى ذلك، وكما ‏كان عليه الحال في النموذج السوفياتي، يتم ترتيب المجموعات العرقية في إطار الفيدرالية الإثيوبية بطريقة ‏التسلسل الهرمي: الأمم ثم القوميات ثم الشعوب. ‏

ثالثا، العامل الرئيسي الأخير الذي شكل الفيدرالية العرقية في إثيوبيا، هو الموقف السياسي الهش للجبهة ‏الشعبية لتحرير تيغراي التي وصلت إلى سدة الحكم قهرا في عام 1991.

لقد وجدت هذه الجبهة التي تمثل ‏جماعة التيغراي نفسها في حاجة إلى تأكيد شرعيتها تجاه غيرها من الجماعات العرقية.

كان الدافع وراء هذا ‏السعي هو الرغبة في تبني سياسة مغايرة لإستراتيجية الأمهرة الخاصة بالاستيعاب والدمج الوطني خلال ‏الفترة الإمبراطورية. لقد كان الهدف الأساسي للدستور العرقي الذي تبناه الائتلاف الحاكم (الجبهة الثورية ‏الديمقراطية الشعبية الإثيوبية) – الذي كان يتألف من أربعة أحزاب سياسية عرقية هي – المنظمة الديمقراطية ‏لشعوب أورومو، وحركة الأمهرة الديمقراطية الوطنية، والجبهة الشعبية الديمقراطية الإثيوبية الجنوبية ‏والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي – هو مواجهة هذا التحدي دون تعريض السلطة السياسية لجبهة التيغراي ‏للخطر. وبالفعل نجحت جبهة التيغراي في مسعاها حيث تمكنت من ترسيخ مكانتها المهيمنة سياسيا من خلال ‏القضاء على بنية الحكم القديم وخلق هيكل سياسي جديد للحكم.

المصدر:صفحة د.حمدى عبدالرحمن على الفيسبوك https://www.facebook.com/drhamdyabdelrahman/posts/2661588747187769‏

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *