أزمة الدولة الأفريقية بعد الاستعمار: الحالة الإثيوبية وتشابكات القرن الأفريقي

بقلم: د. محمد عبد الكريم..
تكشف حالة الأزمة الإثيوبية الحالية عن مدى عمق معضلات الدولة الأفريقية وتجذر أوجه الخلل البنيوي الكثيرة الذي قامت عليه منذ الاستقلال، ويضاف إلى ذلك ما تعنيه الحالة الإثيوبية من تشوه بناء دولة قامت منذ منتصف القرن التاسع عشر على “استعمار داخلي” لشعوب أضعف من جهة القوة العسكرية وضمها قسرًا داخل حدود “إثيوبيا الحالية” السياسية بدعم مباشر من قوى الاستعمار الأوروبي في الإقليم؛ مما يوحي حاليًا بأن تفهم جذور أزمة الدولة وتطوراتها التاريخية يحيل إلى فهم أكثر دقة للأزمة الحالية في إثيوبيا وخيارات رئيس الوزراء آبي أحمد ونخبته السياسية “الضيقة”، ونقد مساعيها إعادة إنتاج ديناميات الهيمنة “الحبشية” (الإثنية-دينية) على بقية مكونات دولة إثيوبيا الحالية؛ إما باستحضار أسس دينية أسطورية تقوم على أفكار النبوءات والصدامات الأيديولوجية (سواء الحقيقية أم المفتعلة)، أو تبني معادلات صفرية في الصراع السياسي الدائر حاليًا بغض النظر عن تداعياته الداخلية والإقليمية وتكاليفه البشرية الخطيرة وغير المسبوقة أفريقيًا منذ أزمة التطهير العرقي في رواندا- بوروندي في تسعينيات القرن الفائت.
أزمة الدولة الأفريقية بعد الاستعمار
تتعدد أسباب ضعف الدولة الأفريقية وأزماتها المزمنة؛ من أبرزها –تاريخيًا- ما خلفه الإرث الاستعماري من إعاقة إقامة “بيروقراطية كفئة” لا تعتمد فحسب على جهاز إداري مدرب جيدًا ولكن على درجة من التماسك المجتمعي والشعور بالهوية الوطنية؛ كما آزر العهد الاستعماري، حسبما يؤكد مالتي بروسيج Malte Brosig في تقديمه لكتاب صدر مؤخرًا بعنوان أفريقيا في نظام عالمي متغير (2021)، وجود أشكال من “الدولة الوراثية الجديدة” (سواء بوراثة منصب رأس الدولة كما تم في تشاد أو تحكم نخب سياسية ضيقة تحول دون أي تداول سلمي للسلطة كم تم في حالة آبي أحمد في إثيوبيا) تتضارب فيها المصالح الخاصة من أجل الإثراء والسعي وراء السلطة مع المصالح العامة، ومن ثم تحجم أي “حكم فعال” في أفريقيا( ).
ويمكن إرجاع جوانب من أزمة الدولة في أفريقيا، وفق دراسة مهمة لشاهين مظفر حول المسألة (1987)، إلى عدم ترابط العمليات التاريخية المشتركة المؤدية لتكوين الدولة والتطور الرأسمالي، وأن “الدولة الحديثة” في أفريقيا قد فرضتها القوى الاستعمارية من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية وعسكرية (في تجل لنظرية التبعية، وفي الحالة الإثيوبية حيث اتسمت عملية تكون الدولة الإثيوبية بأنها تطور استعماري مستمر حتى منتصف القرن الماضي على الأقل بضم الإمبراطور هيلاسيلاسي إريتريا إلى بلاده). كما فرضت الدولة الاستعمارية سياساتها على المجتمعات الأفريقية التي كانت قائمة بالأساس على زراعة فلاحية صغيرة الحجم؛ مما قاد إلى تناقضات عميقة سواء في طبيعة الدولة “المفروضة” على أفريقيا أم في تأثيراتها على المجتمعات الأفريقية، مع ملاحظة ما يعتبره شاهين مظفر أن “الدولة الاستعمارية المفروضة على أفريقيا في نهاية القرن التاسع عشر لم تكن ذات وضع مستقل في القانون الدولي” لكنها كانت تستقي وضعها القانوني من الدولة (الأوروبية) ذات السيادة( )، أو من دعم القوى الأوروبية الاستعمارية كما في الحالة الإثيوبية.
واستمرت أزمة الدولة الأفريقية بشكل واضح حتى الوقت الراهن كما في نماذج متنوعة سياسيًا وجغرافيًا، وعدم القدرة على إنتاج تحول ديمقراطي مستدام؛ وفيما يفهم التحول الديمقراطي –تقليديًا- على أنه بناء مؤسسات دولة وظيفية ومستدامة تقع في قلب عملية بناء الدولة ذاتها، فإن المؤسسات في أفريقيا ما بعد الاستعمار ظلت تنقسم، حسب ريدي بيركيتيب Redie Bereketeab في مقدمة مفاهيمية لمؤلف مهم عن “بناء الدولة وإعادة بناء الهوية الوطنية في القرن الأفريقي” (2017)، إلى نوعين هما: المؤسسات الحديثة التي زرعها الاستعمار والتي استوردتها دولة ما بعد الاستعمار، وقد اكتسبت تاريخيًا “طابعًا رسميًا”، بينما صنفت المؤسسات التقليدية –النوع الثاني- كمؤسسات “غير رسمية” للدولة. ونتج عن هذه الثنائية مجالين عامين رئيسين هما: الحضر والريف (وما تبعه من تكريس للهيمنة السياسية النخبوية “الحضرية”في حالات شتى)؛ وقادت هذه الحالة إلى التهديد بتفتت المؤسسات وصدامات حتمية بها؛ ومن هنا فإن أي بناء دولة سليم كان يتطلب (نظريًا على الأقل) توازنًا واضحًا بين الإرثين المؤسساتيين. وإضافة إلى المؤسسات والبنى الحديثة فإننا بحاجة إلى أن نأخذ في الاعتبار أبعادًا أخرى مثل دور المؤسسات والسلطات والآليات والممارسات التقليدية (غير الرسمية) في “بناء الدولة”، والتي وضعت قيودًا على تطورها( )؛ مما يمكن أن يقود لفهم أعمق لأزمة الدولة الأفريقية الحالية رغم مرور أكثر من ستين عامًا على استقلال أغلب الدول الأفريقية وتنوع أشكال الحكم بها، وكذلك في فهم الحالة الإثيوبية الراهنة بتسليط الضوء على الديناميات الداخلية الجوهرية لأزمة الدولة.
جذور المشكلة الإثيوبية: سياسات الأرض نموذجًا
تصدرت إثيوبيا وتجربتها الاقتصادية (في ظل تجاهل دولي وإقليمي لأزمتها السياسية البنيوية بشكل واضح قبل أزمة إقليم التيجراي الأخيرة التي اندلعت في نوفمبر 2020) المحافل الدولية المعنية بأفريقيا والتي اعتبرت إثيوبيا “الأسد الأفريقي” الصاعد بمعدلات نمو تجاوزت 10% طوال العقد 2009-2018)، مع إغفال –متعمد في أحيان كثيرة- حقيقة أن هذا النمو ظل في جانب كبير منه ظاهرة جوفاء تقوم على نمو غير طبيعي في قطاع الخدمات باستثمارات خارجية بالأساس لم تكتمل دورتها، وما يمكن وصفه بإعادة تدوير أصول الدولة (مثلما حدث في منح رخصة الهاتف المحمول لشركة دولية في مايو 2021 واعتبرت وقتها آخر الاحتكارات الكبيرة في قطاع الاتصالات الدولية مما يؤشر على تخلف هذا القطاع في إثيوبيا وليس العكس).
ويمكن تلمس أهم جذور أزمة الدولة الإثيوبية في مسألة “سياسة الأرض” وتطوراتها، بالنظر إلى عدة اعتبارات أبرزها طبيعة المجتمع الإثيوبي الزراعي- الرعوي وتجسيدها لطبيعة العلاقات بين “الدولة”/السلطة والمواطنين. وكانت ملكية الأرض في العهد الإمبراطوري (قبل ثورة أكتوبر 1974) بالغة التعقيد على نحو يصعب معه تقديم صورة كاملة لها، إذ كان لإثيوبيا واحدًا من أكثر نظم ملكية الأرض في العالم التباسًا؛ مما قاد إلى صعوبة تحسين نظام إصلاح الأراضي بالبلاد وأثر على إنتاجية الأرض نفسها. ففي عهدي منليك وهيلاسيلاسي ظل نظام الأراضي الإثيوبية إقطاعيًا حيث تركزت ملكية الأرض في يد الإقطاعيين landlords والكنيسة المسيحية الأرثوذوكسية، كما كانت حقوق ملكية الأرض غير آمنة في الغالب بالنظر لاستمرار عمليات الطرد القسرية للمواطنين. و وفي تعميم إجرائي بحت، كان هناك حسب تيشومي سوبوكا Teshome Soboka في فصل مهم حول سياسة الأراضي الإثيوبية وسلطة الدولة بعد الحرب الباردة (2021)( )، نمطان لملكية الأرض في الشمال وفي الجنوب، مما يفسر طبعة الانقسام في الهيمنة لصالح الشمال حتى اللحظة الحالية في إثيوبيا. ففي المناطق الشمالية مثل جوجام Gojjam والتيجراي تنوعت نظم ملكية مثل المشاع communal (ريست rist)، وأرض الهبة gult، والملكية الحرة أو الخاصة gebbar، وأرض الكنيسة samon، ونظم ملكية الدولة “مادريا” maderia. وفيما يتعلق بالنظام المتعلق بعامة الشعب، وهو المشاع “ريست” فإنه حق ادعاء حصة في الأرض استنادًا لقرابة من جد (من جهة الأبوين) تشترك مع أصحاب أراضي مشاع أخرى في عملية معقدة للغاية يديرها حكماء هذه المناطق دون ضمان استخدام متساوي لجميع المزارعين في المنطقة؛ إذ ظل استخدام الفرد للأراضي محدد بشكل كبير بمكانته الاجتماعية. بينما منحت حقوق أراضي “الجلت” gult لأفراد من النخبة الحاكمة كجائزة لولاءاتهم وللمؤسسات الدينية كأوقاف؛ ومنح ملاكها حق جمع الضرائب ممن يزرعونها، وعد نمطا الريست والجلت نمطان متكاملان من ملكية الأراضي. بينما ساد نمط الملكية الخاصة للأراضي في المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية، وكان هو النمط الغالب في “إثيوبيا” حيث قدر انتشاره بين أكثر من 60% من فلاحي إثيوبيا وفي مناطق يعيش بها 65% من سكان إثيوبيا حسب دراسات متعلقة.
وشهد نظام ملكية الأراضي تحولًا جذريًا في العام 1975 بتبني نظام “الدرج” Derg سياسة أراضي ثورية بالإعلان رقم 31 للعام 1975 (إعلان الملكية العامة للأراضي الريفية) الذي استهدف مصادرة الأراضي الريفية من ملاكها وتقديم استخدام متساوي لجميع الفلاحين، ثم منح جمعيات الفلاحين Peasant Associations (PA) سلطات إدارية وقضائية والحق في تخصيص الأراضي، وأسست في ثمانينيات القرن الماضي منظمات جماعية زراعية مثل جمعيات الفلاحين المنتجين التعاونية، وبرنامج قروية الريف لحماية الفلاحين أصحاب الملكيات الصغيرة. ووضعت سياسة درج جميع الأراضي الريفية ضمن ملكية الدولة دون أية تعويضات لأصحاب الحقوق السابقين وحظرت علاقات المزارعة أو الاستئجار. كما تركزت المزارع الكبيرة المملوكة والمدارة من قبل الدولة (التي شغلت بداية مساحة 70 ألف هكتار ثم وصلت في العام 1987/1988 إلى 216 ألف هكتار، وكان مقررًا زيادتها إلى 468 ألف هكتار بحلول العام 1994) في المناطق الجنوبية والغربية مثل أقاليم سيدامو ووليجا Wollega.
وهكذا كرست سياسات الأراضي، بشكل عام وموجز هنا، قدر من استمرار نظم الملكية الموروثة من العهد الإمبراطوري في مناطق الثقل السياسي التقليدية في شمالي إثيوبيا، بينما فرضت “الدولة” حضورها في المناطق الجنوبية والغربية التي ضمت تاريخيًا في مراحل متأخرة لبناء الدولة الإثيوبية؛ مما يشير إلى حجم تمدد سياسات الاستعمار الداخلي بشكل غير مباشر حتى في ظل نظام حكم “ثوري” ماركسي، ثم نظام اشتراكي كشف عن صعوبات الانتقال السياسي في إثيوبيا.

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *