بقلم/ قاسم بشير حامد –جنوب أفريقيا –بريتوريا
الصراع السياسي ضد الأنظمة الشمولية صراع طويل خاضته القوى السياسية من خلال نضال سياسي وتاريخي طويل تذوقت من خلاله أشد أنواع القتل والتنكيل والتشريد والتهميش قٌسم فيه المجتمع السوداني إلى شمالي نيلي مستأثر بالسلطة والثروة ووسط متحضر إستأثر بالخدمات الأساسية من ( صحة وتعليم ) وأطراف مهمشة ظلت تعاني طوال تاريخ السودان السياسي بفعل السياسات التي أفرزتها الأنظمة العسكرية وآخرها نظام الثلاثين من يونيو الذي تربع فيه الإسلاميين على عرش السلطة ولأكثر من ثلاثين عاماً.
جاءت ثورة ديسمبر المجيدة كغيرها من الثورات التي سارت على الأنظمة الديكتاتورية على مر التاريخ السوداني كأعظم ثورة إستطاعت أن تجتث جذور النظام الإسلامي وتقطع الطريق أمامه من خلال إرادة وطنية -شعبية جمعت بين كل أطياف الشعب السوداني ومكوناته السياسية الحزبية والمدنية من أجل إزالة هذا النظام والخلاص منه .
فبعد الثورة كان هناك إجماع وطني عام ( حزبي،شعبي ومدني) حول الهدف الأساسي هو إسقاط الحكومة القائمة و الإتيان بحكومة مدنية أخرى تعمل على إصلاح كل الدمار الذي أحدثته الأنظمة الدكتاتورية والتأسيس لنظام ديمقراطي مدني من خلال حكومة كفاءات نستطيع من خلالها عبور مرحلة الفترة الإنتقالية والتأسيس لحكومة منتخبة تشارك فيها كل الأحزاب والقوى الحزبية بشكل ديمقراطي مؤسس من خلال صناديق الإقتراع.
فالإجماع السياسي الذي حَظيت به الثورة في فترة مابعد السقوط جاء نتاج لحكم الشعب وإنتصار إرادته التي كانت متعطشة للحكم المدني بعد أن عانت لفترات طويلة من سياسات القمع والإستبداد والفساد الذي إستشرى كافة أرجاء الدولة ومؤسساتها مما آثر على الحياة السياسية والاقتصادية وأدى إلى تردي الأحوال المعيشية في البلاد.
قبل أن يستقيم الأمر وأن نضع ملامح الدولة بالشكل السياسي والعلمي الحديث ، خاصة وأننا من دول العلالم الثالث التي شكلت ملامحها الأنظمة الشمولية خلال فترات من حكم العسكريين المتتالية والتي تجاوز حكم العسكر فيها أكثر من (52 ) عاماً،
ظهرت الصراعات السياسية والحزبية وصراع الإيدولجية والطوائف الحزبية داخل الدولة من أجل إقتسام طبق السلطة الذي شارك فيه كل أبناء الشعب السوداني في الريف والحضر فظهرت الأجندة الحزبية والصراع الأيدولوجي المحموم و إحتفظت معظم الأحزاب السياسية بمصلحتها الخاصة دون النظر إلى المصلحة العليا في البلاد أو حتي النظر للقوى المدنية والمكونات الشعبية التي تمثل عامة الشعب وما تم تقديمه من تضحيات جسام أنتجت لنا ثورة أستطعنا من خلالها أن نسقط أعتى الدكتاتوريات في القرن الحالي و قُدم من خلالها مئآت الشهداء والجرحى والمصابين والمفقودين كمهر في سبيل الحرية والديمقراطية والسلام ، تفسير:
التلاحم السياسي والإصطفاف حول الثورة لم يكن وليد اليوم بل سُنة توارثتها الأجيال عبر التاريخ السياسي فدوماً ما نجد الثورات توحد الصفوف وفي الغالب الأعم يجتمع الناس لحظة الإنتصار وينساق كلهم في هذه اللحظة ويتناسى الناس أجندتهم الحزبية فقط في هذه اللحظة ولكن تتجدد المصالح والمطامع بعد ظهور ملامح الإستقرار السياسي ،، فيظهر كل حزب بأجندته الخاصة ومطامعه نحو السلطة من خلال ترشيحات للوزراء والمسؤلين وترشيحاتهم للوظائف في الخدمة المدنية وغيرها ،
فالإتفاق الذي تم لحظة إنتصار الثورة لم يكن إتفاق نحو المبادي والقيم العليا للبلاد بل كان إتفاقاً مرحلياً أملته الظروف السياسية التي كانت سائدة في ذلك الوقت برغم إحتفاظ أي حزب بحاجاته (ظهر ذلك في مرحلة مابعد الثورة).. ففي خضم لحظة الثورة والصراع مع النظام السابق ،، ظهرت الكثير من الخلافات الحزبية والبيانات السياسية التي تتفق تارة وتخالف تارة أخرى مع أهداف الثورة ،،فهناك الكثير من الأحزاب السياسية أصدرت بيانات كانت ضد مصلحة الثورة وضد شكل الإجماع الذي تم بين كل المكونات السياسية والمدنية الأمر الذي أضعف الثورة في مهدها وكسر خاصرة الإجماع وقوى من النفوذ العسكري المتمدد المحب للسلطة دوماً، فالخلافات التي كانت سائدة لم تكن من أجل تأسيس النظام الديمقراطي المنشود او خلاف حول طبيعة ونظام الحكم الذي يجب أن نعبر به هذه المرحلة بل ولم يكن نحو كيفية بناء هذه الدولة والإنتقال بها نحو مصاف الدول الأخرى التي إنتقلت وفي ظرف وجيز لأبعد ما يكون مثال ( رواندا والسنغال في أفريقيا ) وماليزيا سنغافورة وكوريا الجنوبية في قارة آسيا,,
إنتصرت الثورة معلنة عن نهاية حكم العسكر وبداية مرحلة جديدة تؤسس لقيم احرية والديمقراطية التي كانت شعارات رفعتها الثورة منذ الوهلة الأولى فبدأت الصراعات الحزبية تظهر على الوجود خاصة في المراحل الأولى من مراحل الإنتصار التي أُعلن فيها نهاية حكم العسكر وإعلان تولى المجلس العسكري الانتقالي للسلطة،
بعد سقوط النظام ، تشكلت قوى عريضة إتفقت حول إدارة البلاد والعبور بها لمرحلة مابعد الإنتقالية لتأسيس لجو ديمقراطي معافى للمنافسة الحزبية ،، فشكلت قوى الحرية والتغيير أكبر تحالف(كما تم وصفه ) لقيادة الدولة وإدارة شؤونها السياسية وأصبحت فيما بعد تمثل الحاضنة السياسية لحكومة الفترة الإنتقالية.
شكلت قوى الحرية والتغيير أبرز ملامح تلك الفترة (فترة مابعد السقوط) وإلتفت حولها كل القوى السياسية والحزبية التي قادت التظاهر ضد النظام البائد وغيره من الأنظمة الشمولية التي حكمت السودان عبرتاريخه السياسي.
ولعل القبول الذي حُظيت به الحرية والتغيير إبان تلك المرحلة جعل منها وعاء جامع إلتفت حوله كل القوى الثورية ممثلة في لجان المقاومة ولجان الخدمات والتغيير والقوى النسائية بمسمياتها المختلفة…الخ .
فبعد سقوط النظام بدأت ملامح الحراك الثوري تظهر على الوجود، وبرزت تحالفات كثيرة كونت القوى الثورية السودانية أبرزها قوى إعلان الحرية والتغيير، وتضم كيانات عدة منها:
تجمع المهنيين السودانيين – تحالف قوى الإجماع الوطني – قوى نداء السودان – التجمع الاتحادي المعارض – الحزب الجمهوري – الحزب الليبرالي – تيار الوسط للتغيير – مبادرة لا لقهر النساء – حركة قرفنا – التغيير الآن – تجمع القوى المدنية – لجان المقاومة السودانية – مؤتمر خريجي جامعة الخرطوم – كونفدرالية منظمات المجتمع المدني – تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل – منبر المغردين السودانيين – الكيان النوبي الجامع – مجلس الصحوة الثوري – المجموعات النسوية المدنية والسياسية (منسم) – الجبهة الوطنية العريضة – حزب بناء السودان – تجمع أسر شهداء رمضان.
ومن أكبر هذه المكونات في هذا الإطار التحالفي الموقع على إعلان قوى الحرية والتغيير تجمع المهنيين السودانيين الذي قدم نفسه كتيار أفقي ليس له قيادة، وإنما تمثيل لمكونات تحالف بين عدة كيانات منها:
لجنة المعلمين – لجنة أطباء السودان المركزية – التحالف الديمقراطي للمحامين – شبكة الصحفيين السودانيين – رابطة الأطباء البياطرة الديمقراطيين – تجمع أساتذة الجامعات – نقابة أطباء السودان الشرعية – لجنة مبادرة استعادة نقابة المهندسين -لجنة الصيادلة المركزية – تجمع المهندسين السودانيين – تجمع التشكيليين السودانيين – جمعية اختصاصي الإنتاج الحيواني – تجمع ضباط الصحة – اللجنة المركزية للمختبرات الطبية – تجمع الصيادلة المهنيين،، كل هذه المكونات السياسية والمدنية والشعبية شكلت ذلك التحالف العريض (الحرية والتغيير)
مسببات الخلاف :
بدأت الأزمة من خلال غياب الرؤية الكلية التي إتفقت حولها هذه المكونات التي شكلت قوى الحرية والتغيير فكان هناك خلل أثّر على شكل الإتفاق الذي تم بين مكونات الحرية والتغيير نفسها حيث تمثل الخلل في مسألة الإحتفاظ بالإجندة الحزبية الخاصة لفترة مابعد إستقرار الأوضاع السياسية في فترة مابعد السقوط وهي المرحلة التي ظهرت فيها الخلافات والصراعات السياسية وبدأت تظهر على السطح وبشكل واضح ،، هذه الصراعات قادت إلى تحالفات داخل الحرية والتغيير مما أحدث شرخاً وفراغاً كبيراً وجفوة مفتعلة بين مكونات الحرية والتغيير ،
فنتيجة لهذه الخلافات والصراعات بدأت بعض الأجسام الثورة في التململ والتحرك وأصبحت لها قيادات رأسية وأفقية خارج سيطرة الكيان الجامع الذي تشكل خلال الثورة وتحديداَ في فترة مابعد السقوط ،، فالصراع الحزبي وصراع الأجندة هو الذي أضعف الحرية والتغيير وهو الذي قاد لشق الصف الوطني وأفقدها الثقة فيما بينها ومكونات قوى الثورة الأخرى حيث تعالت الأصوات بضرورة إعادة هيكلة قوى الحرية والتغيير خاصة وأنها وبشكلها الحالى أصبحت غير قادرة على إدارة شؤون البلاد السياسية بالشكل الذي تم الإتفاق حوله ،، بل وانها لا تمثل كافة القوى الثورية التي أسهمت في إشعال نار الثورة ضد نظام الثلاثين من يونيو ،، مما قاد كثير من الأحزاب السياسية لتجميد عضويتها داخل الحرية والتغيير بسبب الخلاف الذي كان سائداً داخلها.
الأسباب الرئيسية للصراع :
الإتفاق السياسي بين القوى الحزبية والقوى الثورية التي شكلت الحرية والتغييركان إتفاقاً هشاً و لم يكن يراعي المصلحة العليا للبلاد بل كان إتفاقاً سياسياً مرحلياً من أجل تحقيق أهداف حزبية معينة.
لم تكن هناك رؤية سياسية واضحة متفق عليها من قبل كل القوى السياسية لطريقة إدارة البلاد والعبور بها خلال هذه المرحلة .
لم تكن هناك برامج واضحة تستهدف بناء الدولة والتخلص من الآثار السياسية والإقتصادية التي أحدثها النظام السابق .
تأثرت قوى الحرية والتغيير وبشكل كبير بالقوى الإقليمية خاصة في محور الخليج العربي حيث كان للأمارات العربية المتحدة والممكلة العربية السعودية تأثير بالغ في عملية الصراع خاصة في فترة ما بعد السقوط ،، ومن أجل ذلك إنقسمت الحرية والتغيير نفسها نحو صراع المحاور .
هناك عملية إستقطاب حاد قادتها بعض القوى السياسية داخل القوى الثورية الأخرى ( لجان المقاومة ،،والخدمات ) مما قاد إلى عملية فقدان الثقة تجاه الحاضنة السياسية ووصفهم بالإنتهازيين الحزبيين)،
العودة للإجماع الوطني وكسب ثقة الشارع السياسي والشعب :
الوضع السياسي المشحون حالياً يحتاج إلى عِقد إجتماعي جديد يستهدف المصلحة الكُلية للبلاد من خلال إتفاق سياسي يستهدف بناء بنية الدولة السياسية والإقتصادية والإجتماعية وتوجية الأفكار نحو الإستفادة من موارد البلاد الحالية وتسخير طاقات المجتمع نحو البناء والإعمار لإنجاز مرحلة الفترة الإنتقالية والعبور لفترة مابعد الإنتقالية .
فقصة الإنتصار للذات التي تبنتها الأحزاب السياسية هي التي عقّدت الأمور وصعّبت من مهام الفترة الإنتقالية وفتحت الباب على مصراعيه لنقد الحكومة الإنتقالية بوصفها أخفقت في إدارة البلاد.
الإجماع الوطني حول المصلحة العليا للبلاد:
لتحقيق ذلك يجب إعلاء المصلحة العليا على أي مصلحة حزبية أو طائفية وضرورة توحيد الصفوف خلف راية الوطن والتضحية من أجل حفظ استقراره وأمنه وسلامته، حيث يعتبر هذا الأمر واجباً أخلاقياً يستهدف بناء الوطن ومؤسسات الدولة رداً للتضحيات الكبيرة التي قدمها شهداء الثورة .
فالنجاح الإقتصادي وعملية البناء لا بد أن يسبقها نجاح في المسار السياسي للبلد، لأن المال لا يتحرك في أجواء تنعدم فيها الطمأنينة والإستقرار، مثلما يحدث حاليًا في بعض الدول العربية في مرحلة مابعد الثورة فهي تعيش أوضاعًا اقتصادية صعبة، ولعل أهم عامل في ذلك هو عدم الإستقرار السياسي والإقتصادي.
كذلك كثير من الدول الأفريقية إنتهجت ، مساراً سياسيًا متسمًا بالديمقراطية و أصبحت تنمو كقوى إقليمية صاعدة في القارة الإفريقية ، وأحدثت طفرة سياسية وإقتصادية وضعتها في مقدمة دول القارة الإفريقية.
فالسودان دولة تمتلك كل مقومات البناء من خلال وضعها السياسي ( الأفروعربي) وموقعها الجيوسياسي والجيوإستراتيجي الأفريقي الذي يمكنها من أن تنهض وتقوى أضلعها وتصبح من أعظم دول القارة ، ولكن الأمر لا يتأتى في ظل هذه الصراعات الحزبية الضيقة التي وطأت مصلحة الوطن وعلت مصالحها الشخصية ،،فلابد من ميثاق شرف قيمي أخلاقي توضع فيه المصلحة العليا كأساس للإتفاق بحيث نتطلع من خلاله العبور بالدولة السودانية من مرحلة الإنهيار إلى مرحلة البناء الوطني الشامل.ولتحقيق ذلك لابد من :
– التأكيد على أن مصلحة الوطن هي المصلحة العليا في البلاد.
-ضرورة تبني وضع سياسي راشد يستهدف تحقيق الإجماع الوطني الذي يحقق مصلحة البلاد.
– تخطي كل الصراعات الحزبية التي كانت سائدة من أجل تحقيق تلك المصلحة .
-التأكيد على أن السودان دولة كبيرة وقادرة على تجاوز كل الأزمات من خلال الإستفادة من الثروات التي تشكل إقتصاد الدولة .
-تحقيق البناء الوطني من خلال الإرتقاء بالقطاع الاقتصادي وحسم كافة المشكلات التي قادت إلى تراجعه .
– وقف التدخلات الخارجية أمام الدول الأخرى من خلال تماسك النسيج الوطني الداخلي الذي يستهدف حماية مكتسبات ومرافق الدولة في ظل هذه الظروف الإقتصادية الصعبة.
-تفعيل لغة الحوار من خلال إقامة حوار شفاف وصريح قائم على روح المواطنة هدفه البناء الوطني.