
بقلم : نيكانق صموئيل أبان دينق
باحث مستقل في العلوم السياسية، متخصص في إدارة النزاعات، وحل النزاعات بالوسائل السلمية، ودراسات السلام، وبناء الدولة ما بعد النزاع.
عند نيل السودان استقلاله من الحكم الثنائي المصري البريطاني عام 1956، ورث الدولة الجديدة مشروعات بنية تحتية أساسية أنشأها المستعمر، أبرزها مشروع الجزيرة، وشبكة السكك الحديدية، وعدد من المؤسسات العامة الحيوية. كما ورث السودان جهاز خدمة مدنية منظماً، وجيشاً وشرطة مدرّبين، وهيكل حكم إداري عُرف تاريخياً بعملية “السودنة”، التي مثّلت مرحلة تأهيل السودانيين لتولي إدارة دولتهم المستقلة.
غير أن هذا المقال لا يتناول الجدل المعروف حول تقاسم أصول السودان بين الشمال والجنوب، الذي طُرح ضمن مفاوضات السلام عقب الانفصال، حين طالب جنوب السودان بحصته من البنية التحتية والمؤسسات المالية والإيداعات الخارجية والممتلكات الدبلوماسية. بل يتجاوز المقال ذلك للبحث في ما هو أعمق: التأثيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي ورثها جنوب السودان من “السودان الأم”.
الوراثة السياسية والاجتماعية: كالأم، كالابن او كما في المثل الشعبي طب الجرة على تمها تطلع البنت لامها
في علم الوراثة، نتعلم أن الكائن الحي يرث صفاته من والديه بنسب متفاوتة، وفي حالات نادرة، تظهر طفرات جينية تجعل الفرد لا يشبه والديه، بل يحمل خصائص من أجيال سابقة. هذا المثال البيولوجي يمكن إسقاطه على نشأة دولة جنوب السودان، التي وُلدت من رحم السودان الكبير. ورغم الانفصال السياسي، لا تزال الدولة الجديدة تحمل العديد من السمات الوراثية، إيجابية كانت أم سلبية، من الدولة الأم.
النزعة الانفصالية التي بلغت ذروتها في استفتاء تقرير المصير عام 2011، حين صوّت ما يقارب 99% من الجنوبيين لصالح الانفصال، لم تكن مجرد رغبة في الاستقلال، بل تعبيراً صادقاً عن شعور عميق بالظلم التاريخي والتهميش السياسي الذي مارسته النخب الشمالية المعروفة بـ”الجلابة”. إلا أن هذا الانفصال لم يمنع انتقال العديد من الموروثات المؤسسية والثقافية إلى الدولة الوليدة.
الاستقلال: ثمرة نضال أجيال
من الضروري التأكيد على أن استقلال جنوب السودان لم يكن هبة سماوية أو قراراً عابراً، بل كان ثمرة كفاح طويل ومرير عبر أجيال متعاقبة. هذا النضال اتخذ أشكالاً متعددة: من قدّم حياته في الصفوف الأمامية للقتال، ومن اقتسم لقمة عيشه الشحيحة لإطعام الثوار، ومن سخّر طاقته وأمله من أجل مستقبل أفضل. الجميع ساهم بدافع الأمل في بناء وطن يتجاوز أخطاء الماضي ويكون أكثر عدالة واستقراراً وازدهاراً من “السودان الأم”. لقد كان حلم الاستقلال مرتبطاً بتطلعات شعبية جماعية إلى الكرامة، والسيادة، وتأسيس دولة تُعبّر عنهم وتخدم مصالحهم.
اللغة والثقافة العربية: ميراث مشترك وفرصة مهدورة
من أبرز الموروثات التي انتقلت إلى جنوب السودان من الدولة الأم هي اللغة العربية والثقافة العربية، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى التاريخ الطويل والمصير المشترك بين الشعبين. لكن هذا الإرث تم التعامل معه في بعض الأحيان بالتوجس والرفض، نتيجة لتجارب الاضطهاد الثقافي والسياسي الذي ارتبط بتلك اللغة والثقافة.
ورغم ذلك، فإن هذا البعد الثقافي يمكن أن يشكل جسراً مهماً لجنوب السودان للانفتاح على المحيط العربي، سياسياً واقتصادياً، تماماً كما يتفاعل مع شرق إفريقيا بفضل الروابط الاجتماعية والثقافية. هذه الازدواجية الثقافية تمنح جنوب السودان موقعاً فريداً يمكنه الاستفادة منه في بناء علاقات خارجية تخدم مصالحه الوطنية.
الطفرة السياسية: تكرار النموذج السوداني؟
منذ الاستقلال، عانى السودان من عدم الاستقرار السياسي، تنقّل بين ثلاث ديمقراطيات قصيرة وثلاثة انقلابات عسكرية. الصراع الدائم بين المكوّن العسكري والمدني، وتسييس الجيش، أضعفا مؤسسات الدولة وأعاقا مسيرتها نحو التنمية. وللأسف، يبدو أن جنوب السودان قد ورث هذا الخلل البنيوي ذاته.
منذ عام 2013، عرفت الدولة الفتية دورات متكررة من النزاع المسلح، والانقسامات القبلية، ومحاولات سلام هشة. اعتمدت النخب السياسية في الجنوب، كما في الشمال سابقاً، على الحلول العسكرية لمعالجة قضايا سياسية ووطنية معقّدة، بدلاً من اللجوء إلى الحوار والمؤسسات. اتفاق السلام الهش الموقع في 2018 يعكس هذا التكرار المقلق “للطفرات الوراثية السياسية.”
هل من مخرج؟
إن تحليل العلاقة بين السودان وجنوب السودان من زاوية الوراثة السياسية والثقافية ليس تمريناً نظرياً فحسب، بل هو دعوة صريحة لإعادة التفكير في المستقبل. جنوب السودان يملك فرصة نادرة لإعادة صياغة هويته ومؤسساته، لكن عليه أولاً أن يعترف بأن جزءاً من تحدياته اليوم هو انعكاس لإرث تاريخي مشترك.
وفي المقابل، يجب أن لا يُنسى أن استقلال جنوب السودان جاء كثمرة تضحيات كبرى، ولم يكن مجرد مفصل سياسي. فالأمانة الحقيقية لهذا الاستقلال تكمن في بناء وطن يحقق أحلام وتطلعات من ضحوا من أجله. إن النجاح لا يُقاس فقط بالتحرر من السودان الأم، بل بالقدرة على تقديم نموذج أفضل، أكثر عدلاً وتماسكاً، ويليق بقيمة النضال الذي بُذل من أجله.