مقدمة
تولى الرئيس “جومو كينياتا” (Jumo Kenyatta) الحكم (1963- 1978م) عَقِب استقلال كينيا، ، وخلَفه الرئيس “دانييل أراب موي” (Daniel Arap Moi)، واللذان أسَّسا لحكم الحزب الواحد.
وفي عام 2002، فاز حزب (إئتلاف قوس قزح الوطني National Rainbow Coalition (NRC)) بالانتخابات ضد الرئيس “موي” ، وقام بترشيح “مواي كيباكي” كرئيس للدولة ، وقد جاء “كيباكي” رافعاً شعار مكافحة الفساد.
وشهدت انتخابات عام 2013 فوز “أوهارو كينياتا” (Uhuru Kenyatta)، نجل أول رئيس للبلاد، وأعلن مجموعة من المراقبين الدوليين والوطنيين للانتخابات أنها انتخابات ذات مصداقية، وقد رفع هو أيضًا شعارات مُكافَحَة الفَسَاد. ومن الواضح أن كل رؤساء كينيا قد رفعوا شعارات مُكافَحَة الفَسَاد، وربما يكون ذلك بغرض تحقيق أهداف سياسية، من أهمها الاستمرار في السُّلْطَة أو الوصول إليها عن طريق كسب التأييد الشعبي.
ويُسبّبُ الفَسَاد انتهاكات جسيمة في الحقوق السياسية والاقْتِصَادِيَّة، مؤدِّيًا إلى أقصى مستويات الفقر، وغالباً ما يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية؛ لذا فإن مُكافَحَة الفَسَاد من الأهمية بمكانٍ لتحقيق الحكم الرشيد وسيادة القانون في العديد من البلدان، مثل كينيا.
وسيتم تقسيم هذه الدراسة إلى ثلاثة مباحث، يتناول المبحث الأول أنماط الفساد في كينيا، ويتناول المبحث الثاني أسباب الفساد وأثره على الديمقراطية والتنمية في كينيا، وأخيراً يتناول المبحث الثالث مجهودات مكافحة الفساد في كينيا، بالتركيز على الإطارين التشريعي والمؤسسي في مكافحة الفساد، ومدى نجاح لجان مكافحة الفساد في الحد أو تقليص الفساد في كينيا.
المَبْحَثُ الأوَّل
أنماطُ الفَسَادِ السِّيَاسِيّ فِي كينيا
شهدت كينيا خلال فترات الحكم المُتعاقِبة منذ الاستقلال العديدَ من أنماط الفَسَاد السياسي؛ من أهمها فساد النُّخْبَة الحاكمة وفساد العملية الانتخابية. ويمكن اعتبار فساد النُّخْبَة الحاكمة من أخطر أنماط الفَسَاد السِّيَاسِي في كينيا.
المَطْلَب الأول
فَسَادُ النُّخْبَةِ الحَاكِمَة
منذُ نهاية الحكم البريطاني، هيمنت النُّظُم السياسية القائمة على المَحْسُوبِيَّة على كينيا، وقد أحدثت هذه الأنظمة ضرراً بليغاً في الحفاظ على المُؤسَّسَات الفعَّالة والتنمية الاقْتِصَادِيَّة. ويُعرِّف “تشيروتيش” (Cherotich) شبكة المَحْسُوبِيَّة بأنها: “علاقة غير متكافئة من الاعتماد المتبادَل والمعاملة بالمثل”، ومثلما كان شائعاً في دول ما بعد الاستعمار، أَعدَّت الحكومة الكينية طَبَقَةً حاكمةً يُهيمِنُ عليها الجماعة الإثنية “الكيكويو” (Kikuyu) والتي استمر تعاطفُها مع البريطانيين ومصالحهم الاقْتِصَادِيَّة. وقد ضمِنَ هذا النظام من المَحْسُوبِيَّة لأعضاء هذه الجماعة الإثنية أن يحكموا بدون معارضة، ويحتفظوا باحتكارهم للموارد؛ مثل: مُخصَّصات الأراضي والمُخصَّصات السياسية، واستمر ذلك حتى إدخال انتخابات متعدِّدةِ الأحزاب عام 1991.([1])
وقد بَدَتِ السنوات الأولى بعد الاستقلال مباشرة ذاتَ طابعٍ دستوري وقانوني، وكغيرها من الأنظمة السياسية في بدايتها، تم رفع شعارات الدِّيمقراطيَّة والحكم وفقاً للقانون، إلا أنه بعد استِتْباب الأمور والسيطرة على السُّلْطَة؛ ظهر نظام غير رسمي يقوم على المُحاباة والوساطة والمَحْسُوبِيَّة، ويوازي في الوقت ذاته النظام القانوني القائم في الدولة، وأصبحت سلطة الرئيس وعائلته أمراً لا يمكن تحدِّيه أو مناقشتُه في ذلك الوقت.([2])
ووفقاً لدستور الاستقلال، أُعطيت للرئيس السُّلْطَةُ المطلقة لتعيين السُّلْطَةِ القضائية وحلِّ البرلمان والسيطرة على الميزانية الاتحادية، ولم يتغير الأمر إلا في وقت مبكر من تسعينيات القرن العشرين، وتم ذلك تحت ضغط المُؤسَّسَات المالية الدولية، حين وافق الرئيس “موي” على إجراء إصلاحات دستورية، بما في ذلك إجراء انتخابات متعدِّدة الأحزاب. ورغم أن الإصلاحات الدستورية السابقة للانتخابات لعام 1992م قد أنشأتْ لجنة انتخابات مستقلة، إلا أنها تركت تعيين أعضاء اللجنة بالكامل ورئيسها لتقدير الرئيس.([3])
وفي عام 1978م، تُوفِّى “جومو كينياتا” وتولى “دانييل أراب موي” رئاسة الدولة، ولم يتَّبِعْ “موي” (Moi) أساليب النظام الذي سبقه فقط، وإنما أسَّس أشكالاً أقوى من عنف الدولة، بما في ذلك الاحتجاز دون محاكمة والتعذيب الروتيني للمُنشقِّين المُفترَضين والحقيقيين، وكانت قدرته على البقاء في السُّلْطَة حتى عام 2002م نتيجة مباشرة لأسلوبه في استخدام العنف كوسيلة لتأمين السُّلْطَة السياسية والفوز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية على حد سواءٍ.([4])
ولقد سهَّل الدستور المعدَّل عام 1986م هيمنة السلطة التنفيذية على مُؤسَّسَات الحكم؛ مثل: التشريع، والقضاء، وأجهزة الدولة الأمنية، بدعوى حفظ النظام الذي يشير إلى جهود الأنظمة السياسية لضمان بقائهم في مواجهة التنافس مع المجموعات السياسية الأخرى المتنافِسة والسكان الذين لا يقبلون ادعاءاتهم من أجل الشرعية. وكان يُمارَس التحكم الرئاسي في مُؤسَّسَات الحكم من خلال سلطة العزل والتعيين بصورة غير منظمة؛ فالرئيس يستطيع أن يُعَيِّنَ ويعزل المُوظَّفِين العُمُومِيِّين بإرادته، وبعيداً عن أخذ الرئيس موارد كبيرة عن طريق المحاباة، فإن هذه السلطات مكَّنتْه من ضمان أن هذه المُؤسَّسَات ستفعل ما يراه فقط، وكنتيجة لذلك فإن المُوظَّفِين العُمُومِيِّين يَرُون أنهم مُحاسَبون تجاه الرئيس، ولم يعتقدوا أنهم محاسَبون تجاه الشعب لممارستهم سلطاتهم.([5])
وارتبط التحكُّم الرئاسي في مُؤسَّسَات الدولة بتسييس البيروقراطيات (الأجهزة الإدارية) وتفشِّي ظاهرة الشِّلَلِيَّة، كما أحاط الرئيس نفسه بسَماسِرةِ سلطةٍ لا غنى عنهم، ولم يكن لأحد سلطات عليهم، وقد انتشر رجال الرئيس في المُؤسَّسَات الإستراتيجية للدولة، وأصبحوا عملاء موثوقاً بهم كتجار ومخطِّطين سياسيين ونصَّابين يَعقِدون صفقاتٍ على أعلى مستوى من الفَسَاد، وقد تمتعوا بنفس الحصانة التي تمتع بها الرئيس نفسه؛ الأمر الذي خلق قنوات لاستغلال النفوذ والسُّلْطَة والمنصب العام من أجل تحقيق أهداف شخصية، وخَاصَّةً من خلال المَحْسُوبِيَّة والمحاباة. وكانت لهم سلطة تعيين المُوظَّفِين أو ترقيتهم أو فصلهم، وتحديد مَن يستحق عقود الحكومة أو مَن تُخصَّص له قطعة أرض أو مَن يُعطَى له ترخيص. وتَولَّد عن ذلك عدم كفاءة دواوين الحكومة، كما مَهَّد ذلك الطريق أمام الإهمال الذي تحميه المَحْسُوبِيَّة.([6])
وفي السياق السابق، تجدُر الإشارة إلى أبرز قضايا الفَسَاد الكبير في كينيا، والتي تورط فيها كبار مسئولي الدولة والعديدُ من الوزراء في عهد الرئيس “موي”، وهما فضيحتا “جولدنبرج” (Goldenberg) و”أنجلو-ليسنج” (Anglo-leasing) .([7])
فقد انطوتْ كلتا الفضيحتانِ على مدفوعات تقدِّمها الحكومة لشركات وهمية، والتي عادةً ما تكون واجهة لقيادات عليا في النظام الحاكم، مقابل تقديم خدمات وهمية؛ مما شكَّك في جدوى تقديم المعونات لكينيا.([8])
وكان من المفترض أن تجلب الانتخابات الدِّيمقراطيَّة في كينيا عام 2002م فترةً من الإصلاح السِّيَاسِي والاقتصادي المكثف، وقَدَّمت حكومة “مواي كيباكي” في بداية فترتها في الحكم عددًا من الإصلاحات الهامة، والتي تشمل تكوين وَحْدَة خَاصَّة مُكَلَّفة بالإشراف على مُكافَحَة الفَسَاد والاحتيال، ولكن سرعان ما لاحقَتْ المشاكل عملية الإصلاح؛ حيث تفكَّك الائتلاف الحاكم وعاد الصراع بين الفصائل للظهور مرة أخرى، والذي كان أغلبه صراعًا بين الجماعات الإثنية.([9])
وسريعًا ما تخلَّت الحكومة عن التزامها بتقليص صلاحية الرئيس، كما كانت نهاية عملية الإصلاح مُرفقة بفسادٍ على نطاق واسع.([10])
ومما سبق، يتَّضِحُ أن تغيُّرَ القيادة السياسية في كينيا لم ينعكس إيجابياً على تقليص ظاهرة الفَسَاد، والتي بدت مُتجذِّرةً في النُّخْبَة الحاكمة، فقد اتَّسَمت فترة الحكم ما بعد انتخابات 2002م بنفس مُعدَّلات الفَسَاد المرتفعة، وهو ما عكسه تقرير “جيثونجو” (Githongo)(*)الذي تم تسريبه والذي طرح فيه “جيثونجو” مشكلات تورُّط كبار المسئولين السياسيين في الفَسَاد. كما ظهرت مؤشرات لتراجع التزام الإدارة السياسية على مستوى رئاسة الدولة بدعم المُؤسَّسَات الرقابية ومُؤسَّسَات مُكافَحَة الفَسَاد؛ مما يفرِّغ الإطار القانوني أو الالتزامات التعاقُدية بمُكافَحَة الفَسَاد من مضمونها.([11])
المَطْلَبُ الثَّانِي
فَسَادُ العمليةِ الانْتِخابِيَّة
أُجريت انتخابات عامة في كينيا عام 1988م، والتي فاز فيها “موي” بفترة رئاسية جديدة، وحصل الحزب الحاكم على أغلبية مقاعد البرلمان.
وأخذت الحكومة الكينية في انتخابات 1988م بنظام التصويت من خلال وقوف الناخبين في صفوف منتظمة خلف مرشحيهم، وزعمتِ الحكومة أن الهدف من وراء هذا الإجراء هو منع تزوير الانتخابات.([12])
بيد أن المواطنين اعتقدوا اعتقاداً راسخاً أن تنظيم عملية التصويت بهذه الصورة إنما ينطوي على ترهيب ووعيد واضحَيْن؛ إذ كان شباب حزب “كانو” يطوفون بكل مكان كعمل من أعمال المراقبة وإظهار القوة؛ ومِنْ ثَمَّ أضحى على الناخبين أن يقفوا وراء المرشح المفضَّل من قِبَل الحكومة والحزب الحاكم وإلا تعرضوا لنتائج لا قِبَل لهم بها.([13])
ويلاحظ أن ثمة علاقة ارتباطية بين تمويل الحملة الانتخابية والفَسَاد في كينيا، ولكن ما لم يتم استكشافه بعدُ هو العلاقة بين الفَسَاد والدِّيمقراطيَّة في كينيا. فمنذ عام 1990م، عندما بدأت كينيا التحوُّل للنظام الديمقراطي، شهدت البلاد انفجار الفَسَاد الكبير (السياسي) المرتبِط في المقام الأول بتمويل الانتخابات، والذي أصبح أكثر إلحاحًا بمقتضيات السياسة التنافُسية. وتقِف فضيحة “جولدنبرج”، أكبرُ فضيحة فساد في كينيا حتى الآن، كدليلٍ واضحٍ للجانب الهشِّ المظلم من الدِّيمقراطيَّة في كينيا متزامنًا مع انتقال البلاد من حكم الحزب الواحد إلى التعدُّدية الحزبية. وقد تضمنت فضيحة “جولدنبرج” كبار المسئولين والعارفين بشئون الحكم في نظام حكم “موي” الذي كان مصممًا على دعم حزبه استعدادًا لانتخابات 1992م، وهي أول انتخابات تَعدُّدية منذ عودة كينيا للسياسة التعدُّدية.([14])
كذلك في الانتخابات العامة عام 1997م، تَحدَّث معهد تعليم الدِّيمقراطيَّة
(Institute for Education in Democracy (IED)) عن حالات رِشوةٍ للناخبين في جميع الدوائر الانتخابية، حيث قيل إن المرشحين كانوا يدفعون للناخبين ما بين 20 إلى 1000 شلن، إما مباشرة أو من خلال وكلاء، وشملت البضائع النقدية الأخرى التي تم تقديمها كرشاوَى دقيق الذرة، والسكر، والملابس، وشراء المواد الغذائية والمشروبات، كل ذلك من أجل استمالة الناخبين. كما انتشرت الرِّشْوَة بشكل كبير في الانتخابات العامة لعام 2002م، بدرجة أكبر من التي أُعلن عنها في انتخابات عاميْ 1992و1997م؛ حيث انتشرت الرِّشْوَة خلال عام 2002م، وفقاً لتقرير برنامج المراقبة الداخلية في كينيا ((Kenya Domestic Observation Programme (K-DOP 2002) بشكل كبير خلال ترشيحات الانتخابات العامة نفسها، فقد تم استخدام المال لشراء بطاقات الناخبين وبطاقات الهُويَّة في محاولة لحرمان أنصار الخصم من فرصة التصويت؛ الأمر الذي انتشر على نطاق واسع.([15])
وفي انتخابات عام 2007م، تسبَّبَتْ عملية الانتخاب المَعِيبة وادعاءات التزوير في انتشار الغضب الشعبي على نطاق واسع، والذي تحوَّل إلى أعمال عنف أعقبت الانتخابات، وتسبَّبت في كثير من حالات الوفاة حتى عام 2008م؛ حيث وُجدت تقارير اتهام بالتلاعب والتزوير من جانب لجنة الانتخابات الكينية، ووَجَدتْ لجنة المراجعة المستقلة أن تزوير الانتخابات كان متفشِّيًا في جميع مراحل فرز الأصوات، وقَضَت بعدم نـزاهة العملية الانتخابية؛ بسبب الانتشار الكبير للرشوة، وشراء الأصوات، والترهيب، وحشو الصناديق، وعملية النقل والفرز؛ مما نتج عنه تشويهٌ للعملية الانتخابية وتلويث للنتائج. وبعد صدور التقارير، تم حل لجنة الانتخابات.([16])
وعادةً ما يُلاحظ في البلدان التي ليس بها تمويل حكومي للانتخابات استغلال الحزب الحاكم لموارد الدولة (مثل: الدعم الإداري اللوجيستي واستخدام وسائل إعلام الدولة لأغراض التواصل والدعاية، واستخدام موظفي الدولة لتدعيم اهتماماته الحزبية)، ويوضح الوضع الكيني هذا الأمر. ولا تزال دولة كينيا تحاول جاهدةً حل مشكلة عملية تمويل الأحزاب السياسية، كما ويظل التمويل العام غيرَ موجود والنُّظُم التي تحكم قيود الإنفاق على الحملات غير موجودة، هذا في مقابل أن العملية الانتخابية تحتاج إلى مبالغ نقدية ضخمة؛ الأمر الذي أدى بدوره إلى الفَسَاد الذي وَجَد مَرْتَعاً من الأرض الخصبة. ولذلك، منذ عودة الدولة إلى سياسة تعدد الأحزاب في عام 1992م، كانت الدِّعاية الانتخابية في الغالب حول الأغنياء الذين تأسس بروزهم في السياسة على مكافآت لا نهاية لها للمؤيدين أو رشوة مؤيدي المعارضين؛ ومِنْ ثَمَّ جعل الانتخابات في الدولة أمرًا متَّسمًا بالفوضى، خَاصَّةً عند عدم وجود إطار تشريعيٍّ ينظم عملية تمويل السياسة في كينيا. وعلى الرغم من أن البرلمان قد مرَّر أربعة اقتراحات تطلب التشريع بتسهيل عملية التمويل للأحزاب السياسية منذ عام 1993م، إلا أنه لم يُسنّ أي تشريع حتى الآن.([17])
توضِّح تجربة كينيا أن التحول للنظام الدِّيمُقراطيّ في كينيا، ليس سوى ظلٍّ لدولة الحزب الواحد، وبعيداً عن كون كينيا ذات “ديمقراطية ناقصة أو متدنية”، إلا أن الدولة الكينية لم تتحوَّل أصلاً.([18])
وتجربة كينيا مع الفَسَاد حتى الآن تعزِّز هذا الاستنتاج، ولا يزال الفَسَاد مشكلة في ظل العصر الديمقراطي، تماماً كما كان في عصر دولة الحزب الواحد، بتسهيل من نظام سياسي لا يزال موصومًا بالمَحْسُوبِيَّة، مع فصائل تخوض معركةً لا تنتهي للحصول على الجائزة الكبرى في نهاية المطاف، ألا وهي: الدولة. وتدل تجربة كينيا مع الفَسَاد على أن الدولة ما زالت مُستبِدَّة.([19])
المَبْحَثُ الثَّانِي
الفَسَادُ السِّيَاسِيُّ في كينيا
(الأسبابُ – الآثار)
المَطْلَبُ الأوَّل
أسبابُ الفَسَادِ في كينيا
أولاً: المِيراثُ الاستعماري
لقد انتشرت ظاهرة الفساد في كينيا منذ عدة سنوات، كما توجد في المناطق الأخرى من العالم. وظهر الفَسَاد في وقت الانحراف النظامي للقيم الثقافية والاجتماعية التي تحكَّمت في أسلوب الحياة في أَفْرِيقيا؛ فقد تم تحريف الفضائل، مثل: توقير الكبار والمسئولين في السُّلْطَة، وكرم الضيافة التقليدي الأفريقي الخاص بإعطاء الهدايا، والتي حُوِّلت إلى مطالب كاملة بتقديم الرَّشَاوَى مقابل إمكانية تقديم الخدمة. كما يمكن أن يَرجِعَ الفَسَاد إلى الحِقبة الاستعمارية؛ وهو نظام كان يقوم على النهب التام للموارد الطبيعية للبلد. وفي الواقع، وفَّر مثلُ هذا النظام بيئة داعمة لظهور الفَسَاد، وأتى الاستقلال دون إعادة هيكلة أساسية للدولة الاستعمارية، والمقصود من هذا أن الفَسَاد تم نقله إلى الدولة المستقلة.([20])
ثانياً: مَركزِيَّة السُّلْطَة
لقد شهدت كينيا في العقود التي تلت الاستقلال، فترات انتهاكات لحقوق الإنسان بما في ذلك صدامات محلية، واعتقالات تعسفية، وإعدامات واحتجاز دون محاكمة، وتعذيب، وعنف انتخابي، وفَسَاد هائل، وجرائم اقْتِصَادِيَّة، كل هذا يمكن نِسبَته بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى النظام الدستوري الذي يركز السُّلْطَة في يد الرئاسة ويقوِّض سلطات الحكومة والمجتمع المدني.([21])
فلقد عزَّز البناء الدستوري الذي وُرث بعد الاستقلال دور نموذج الإدارة الاستعمارية في الإبقاء على الفَسَاد في دول أَفْرِيقيا جنوب الصحراء، ومنها كينيا. ولأنه من الصعب تحقيق أقصى منفعة اقتصادية من المستعمرات في ظل الاحتفاظ بالسيطرة الإدارية المباشرة، فإن السلطات الاستعمارية قامت بنقل سُلطاتها وصلاحياتها إلى قادة وطنيِّين في فترة الستينيات من القرن الماضي. وفي واقع الأمر، فإن الدول الأفريقية الناشئة حديثاً قد وَرِثَتْ قوانينَ وُضعت خطوطها العريضة تحت إشراف السلطات الاستعمارية السابقة، وهذه القوانين تميل إلى تدعيم ممارسات الفَسَاد من خلال مركزية السُّلْطَة، وإضعاف المشاركة الدِّيمقراطيَّة، وتسهيل زيادة سيطرة الدولة على الأنشطة الاقْتِصَادِيَّة، وساهم في ترسيخ مركزية السُّلْطَة الافتقارُ إلى الإرادة السياسية والالتزام من جانب القادة الأفارقة بمُكافَحَة الفَسَاد.([22])
ثالثًا: ضعف الإرادة السياسية
تعتبر دولة كينيا مثالاً واضحاً لضعف الإرادة السياسية في اقتلاع الفَسَاد من جذوره؛ فقد تعرضت الوكالات والهيئات الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد للمكائد، والإخماد، وإعادة الإحياء، وتغيير المسمى، وإعادة التقديم، والقضاء عليها مرة أخرى، وتستمر القصة في التكرار. وعلى نفس المنوال، شهدت الوكالات المَنُوط بها مُكافَحَة الفَسَاد عمليات إعادة تطوير بشكل مُمَنْهَج واستمرار تغيير القائمين عليها.([23])
وهذا ما أفقد الحكومات المتعاقِبة في كينيا المِصْداقِيَّةَ في مُكافَحَة الفَسَاد، وفي المقابل، توفير بيئة صالحة ومهيَّأة لتفشِّي الفَسَاد. وهنا يمكن الربط بين ضعف الإرادة السياسية في محاربة الفَسَاد والسُّلْطَة غير المحدودة للرئيس والنُّخْبَة الحاكمة؛ فعدم التزام النُّخْبَة الحاكمة بمحاربة الفَسَاد كان نتيجةً لما يوفِّر لهم الفَسَاد من عامل مهم للحفاظ على نظامهم السِّيَاسِي واستمرارهم في الحكم كما سبقت الإشارة سالفًا.
رابعاً: العوامِلُ الخارجية للفساد
الفَسَاد في كينيا ليس نتيجةَ عواملَ داخليةٍ فقط، بل هو أيضاً نتيجة عوامل خارجية. وتظهر هذا العوامل من خلال المساعدات والمعونات الخارجية التي تمنحُها الدول الغربية والمُؤسَّسَات والهيئات الدولية وكذلك الشركات الكبرى (متعدِّدة الجنسية) لكينيا، والتي عادةً ما تهدف من خلالها إلى تحقيق مصالحها الاقْتِصَادِيَّة وأهدافها الإستراتيجية والسياسية، ويتم ذلك عن طريق كثير من المعاملات المشبوهة مع أطرافٍ داخلية في كينيا.([24])
وتعتبر معظم قضايا الفَسَاد الكبرى ذاتَ أبعاد دولية، فالراشي من الشركات متعدِّدة الجنسية يمكن أن يُعَدَّ مصدراً للفساد بين الدول، ويلجأ في كينيا رجل السياسة الفاسد إلى الفرار للخارج هروبًا من محاكمته على قضايا الفَسَاد التي يعتبر طرفًا فيها. والأكثر شيوعاً هو أن الأرباح الناتجة عن أعمال الفَسَاد يمكن أن تُحجَبُ عن الأنظار بتحويلها إلى حسابات مصرفية في دول مختلفة، وقد كَثُر الحديث في هذا الجانب وفقاً للتقارير الواردة من منظمات دولية عن القادة الأفارقة فيما يختص بالحسابات السرية، وكان من أبرز هؤلاء القادة “آراب موي”، رئيس كينيا الأسبق، والذي قام بتحويل ثروته إلى بنوك سويسرا، وكان هذا على حساب التقدم الاقتصادي في بلاده.([25])
المَطْلَب الثَّانِي
أثَرُ الفَسَادِ على كينيا
تفاقم مستوى العجز المؤسسي نتيجة لأربعون عامًا من ممارسة المَحْسُوبِيَّة، والذي لا يزال يؤثر على المواطنين العاديين. فبينما كانت القرارات تُتخذ بواسطة النخب ومن أجل النخب، تَركت أنظمة الحكم بقية السكان للمعاناة، من خلال عدم السماح لعدد كبير من الناس بالوصول إلى الخدمات – إبعادهم عن عملية الحكم ببساطة بسبب انتمائهم الإثني – فيُحرمون من حقهم الأساسي في الحكم وتقرير المصير الاقتصادي. ويُعَدُّ كلٌّ من التوزيع غير العادل للموارد، وضعف البنية التحتية، وعدم كفاية الخدمات الحكومية من المشاكل التي يعاني منها عامةُ الناس من جرَّاءِ أنظمة المَحْسُوبِيَّة، فهذه الترتيبات يمكن أن تؤدي أيضاً إلى العنف المادي كما حدث في كينيا عام 2007م. ([26])
كما يؤدي الفَسَاد في العمليات الانتخابية والنتائج اللاحقة للممارسة السياسية إلى ضياع الشرعية، فحينما يتدخل المسئولون العموميون في نـزاهة العملية الانتخابية، عن طريق رِشوةِ الناخبين لحثهم على النـزول للتصويت أو للامتناع عن التصويت، فإن هذا يقلل من ضمانة أن الصوت الانتخابي يعكس حرية التعبير عن إرادة الشعب.([27])
وبسبب استخدام قدر كبير من الإيرادات الحكومية في الانتخابات الكينية خَاصَّةً بعد إقرار نظام التعددية الحزبية بغرض حشد الدعم السِّيَاسِي للحزب الحاكم، فقد عانت البنية التحتية وتوفير الخدمات الاجتماعية من نقص التمويل؛ الوضع الذي أتاح الفرصة للعصابات العنيفة لتوفير الخدمات الاجتماعية والأمنية، بالإضافة إلى خدمات الحماية وإنفاذ القانون خارج إطار الدولة لمَن هم على استعدادٍ للدفع، بما في ذلك أعضاء المعارضة أو من داخل الحكومة نفسها. وأصبحت هذه العصابات بمثابة “حكومة الظل” التي تمارس السيطرة باعتبارها “دولة داخل دولة” في أجزاء مختلفة من كينيا.([28])
وأدى سوء أساليب تحصيل الضرائب إلى فقدان الكثير من الأموال سنوياً نتيجة عدم تحصيلها. فوفقاً للمقياس الأفريقي في 2008 فإن 49% ممن تم إجراء الاستطلاع عليهم منـزليًا يعتقدون أن كل، أو بعض، موظفي الضرائب مشتركون في الفَسَاد. ويشير مؤشر الرِّشْوَة لشرق أَفْرِيقيا، والذي تم إجراؤه عام 2011 أن 30.3% من المواطنين محتملٌ تعرضُهم لطلب رشوة عند تعاملهم مع موظفي الضرائب. وعلاوة على ذلك، ووفقاً للنـزاهة العالمية 2011م، هناك تقارير منتظمة عن التهرُّب الضريبي وموظفين حكوميين رفيعي المستوى يستخدمون مناصبهم ونفوذهم للحصول على إعفاءات ضريبية لأنفسهم أو لأقاربهم.([29])
وفي قطاع التِّجارة، يتسبب الفَسَاد في هروب رؤوس الأموال وارتفاع الأسعار على مستوى البيع بالجملة والبيع بالتجزئة على حد سواءٍ، ولقد تم توجيه النقد إلى قطاع الاستيراد والتصدير بالتحديد؛ لأنه يوفر فرصاً عديدة لارتكاب الممارسات الفاسدة، فطلبُ الرَّشَاوَى هو أمر ملحوظ في عملية التخليص الجمركي للبضائع أو للحصول على بطاقة الاستيراد، أو الاستثناء من الضرائب والرسوم، فمثلاً؛ اللجنة الكينية لعائدات الجمارك والضرائب مُشترِكة في الفَسَاد، وتحديداً عندما سمحت بدخول واردات السكر الذي دخل البلاد بصورة غير منتظمة متمتِّعاً بمَيْزَةٍ غير عادلة عن صناعة السكر المحلي؛ مما أدى إلى استنـزاف المتنافسين. وبالإضافة إلى ذلك، لا يقوم الفَسَاد فقط بسلب الدولة العائدات التي هي في أشد الحاجة إليها من خلال التهرب الضريبي عن طريق المسئولين الفاسدين، ولكنه أيضاً يعيق الصناعات المحلية والاقتصاد.([30])
ويشير تقرير البنك الدولي لعام 2012م إلى أن كينيا تخسر سنويًّا رُبعَ مليون وظيفة بسبب الفَسَاد، حيث يدفع أرباب العمل في القطاع العام والقطاع الخاص 104 مليارات شلن كيني كعُمُولات يتم دفعها لإنجاز الأعمال والتي يمكن أن توجَّه لخلق فرص عمل.([31])
المَبْحَثُ الثَّالِثُ
مَجْهُودَاتُ مُكافَحَةِ الفَسَادِ السِّيَاسِيِّ في كينيا
يعتبر تحقيق الحكم الرشيد ومُكافَحَة الفَسَاد من بين التحديات الأكثر أهميةً التي تواجهها كينيا في الوقت الحاضر، وقد تم تقديم عدة مبادرات وبرامج ومشروعات لمُكافَحَة الفَسَاد في الدولة منذ عصور الاستعمار.([32])
وتكشف السجلات الرسمية أن بعض الجهود السابقة الرامية إلى مُكافَحَة الفَسَاد في كينيا بدأت في الفترة الاستعمارية في العشرينيات من القرن الماضي، وأدت هذه الجهود في نهاية الأمر إلى سَنِّ قانون منع الفَسَاد رقم (65) المعتمد في عام 1956م. ([33])
وجاءت الجهود اللاحقة التي تهدف لمحاربة الفَسَاد مُتبنّيةً فكرةَ إنشاء وكالة لمُكافَحَة الفَسَاد باعتباره عنصرا ضروريًّا، وأصبح ذلك واضحًا في ذِروة فترة حكم الحزب الواحد عام 1980م، والتي تزامنت مع الكشف عن الفَسَاد الكبير، وكانت الوكالات الأولية لمُكافَحَة الفَسَاد تابعةً لقوات الشرطة، وتَفتقِر إلى الاستقلال والموارد والتفويض التشريعي للقيام بهذه المهام.([34])
المَطْلَبُ الأوَّل
الإطارُ التَّشْرِيعي لمُكافَحَة الفَسَادِ في كينيا
تُعتبر قوانين مُكافَحَة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة وأخلاقيات الموظف العام في عام 2003م مِن أكبرِ المبادرات لمُكافَحَة الفَسَاد التي تم اتخاذها في كينيا مع بداية الألفية الجديدة.
أولاً: قانون مُكافَحَة الفَسَادِ والجرائم الاقْتِصَادِيَّة لعام 2003م
يُنَظَّمُ جهاز مُكافَحَة الفَسَاد في كينيا بمجموعة من القوانين؛ أهمها قانون مُكافَحَة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة لعام 2003م؛ حيث صدر هذا القانون بهدف منع الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة والجرائم ذات الصلة، والتحقيق فيها ومعاقبة مرتكبيها، وتم تشكيل اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد
((The Kenyan Anti-Corruption Commission (KACC وفقاً للمادة (6) من قانون مُكافَحَة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة. وتختَصُّ هذه اللجنة بعدة أمور؛ من بينها التحقيق فيما تراه مِن أمور تُثير الشكَّ حول وجود أعمال فساد قائمة أو محتملة، كما أنها تختص بفحص ممارسات وإجراءات الأجهزة العامة من أجل تسهيل اكتشاف ممارسات الفَسَاد، وتأمين مراجعة مَنْهَجِيَّات العمل التي قد تؤدِّي إلى ممارسات الفَسَاد، وتوعية العامة بأخطار الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة، وحشد وتعزيز التأييد الشعبي في مُكافَحَة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة.([35])
وقد ألغى صدور قانون محاربة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة، الذي أصدره البرلمان الكيني عام 2003م، قانونَ منع الفَسَاد السابق، وتبنَّي مفهومًا جديدًا للفساد وأكثر شمولية، متضمِّنًا السلوك الذي يتخطَّى الرِّشْوَة واستغلال المناصب، وفي نفس الوقت صدَّقت كينيا على اتفاقية الأمم المتحدة لمُكافَحَة الفَسَاد.([36])
يهدِف قانون مُكافَحَة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة (The Anti-Corruption and Economic Crimes Act-(AECCA) إلى توفير الوقاية والتحقيق ومعاقبة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة والجرائم ذات الصلة والمسائل المتعلقة بذلك والمرتبطة بها. ويحتوي القانون على نوع جديد من الجرائم الاقْتِصَادِيَّة بوصفها جريمةً تنطوي على خيانة الأمانة بمُوجِب أيِّ قانون مكتوب ينص على صيانة أو حماية الإيرادات العامة، وقد تُصدِر المحكمة أمرًا بالتعويض إذا ثبتت إدانة المالك الشرعي بفعل الفَسَاد، كما أن محاولة التزوير والتلاعب في العطاءات يعتبر جريمة بمُوجِب قانون مُكافَحَة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة ((AECCA، وستُستخدم بشكل خاص في عملية المشتريات العامة، وكذلك مصادرة الثروة غير المُبرَّرة، والتي تعتبر محظورة أيضًا في القانون. ويبدو أن هذه الأحكام تعكِس وتطبِّق محليًّا اتفاقية مُكافَحَة الفَسَاد وأحكام اتفاقية الاتِّحَاد الأفْرِيقِي لحظر أنشطة معينة باعتبارها أعمال فساد.([37])
ويتضح مما سبق أن قانون مُكافَحَة الفَسَاد والجريمة الاقْتِصَادِيَّة (AECCA) أعطى اللجنة صلاحياتٍ كبيرةً مع توفير جميع الوسائل الممكِنة لتمكين لجنة مُكافَحَة الفَسَاد من القضاء على مصادر أو أسباب الفَسَاد في كينيا.
ورغم ذلك، كانت العديد من هذه السلطات بمثابة تحدياتٍ؛ بسبب كونها في صراع مع المبادئ الجنائية الأوَّلِيَّة التي تنص على أن المتهم بريءٌ حتى تثبُتَ إدانته، وكانت الحِجج المقدَّمة هنا بهذا الشأن أن اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد KACC)) كان لديها سلطة كبيرة للتعدِّي على حُريَّات الأشخاص من خلال قراراتها من طرَف واحد بمجرد الاشتباه في تورُّطِ أيِّ شخصٍ في الفَسَاد، وفي الواقع كانت العديد من سلطات لجنة مُكافَحَة الفَسَاد لا تتطلَّب أي قرارات مُلزِمة من المحكمة لممارسة هذه الحقوق، مثل منع المشتبه بهم من مغادرة البلاد. وعلاوة على ذلك، يمكن معاقبة المشتبه بهم؛ إما ماليًّا أو عن طريق السَّجْن في حالة رفضهم الامتثال لسلطة اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد KACC)).([38])
يتضمن قانون منع الفَسَاد (AECCA) قدرًا من المساءلة والشفافية لقرارات النائب العام، وكذلك إلزام اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد KACC)) بتقديم تقارير رُبع سنوية، والتي توضِّح عدد التقارير التي تم تقديمها للنائب العام، وما إذا كانت تَوْصِيات اللجنة باتخاذ الإجراءات ضد شخص معين لم يتم قبولها من قِبَل النائب العام. وبالتزامن مع ذلك، يجب على النائب العام تقديمُ التقارير الخَاصَّة به سنويًّا، على أن يتضمن هذا التقرير الخطوات التي قام باتخاذها طوال العام، وجميع التَّوْصِيات التي تقدَّمت بها لجنة مُكافَحَة الفَسَاد ولم يتم قبولها، وعلى النائب العام توضيح الأسباب التي دفعته لعدم قبول هذه التَّوْصِيات، ويُقدِّم كلا التقريريْن (تقرير لجنة مُكافَحَة الفَسَاد وتقرير النائب العام) إلى الجمعية الوطنية، إلى جانب تقديم تقرير لجنة مُكافَحَة الفَسَاد إلى صحيفة “جازيت” Gazette للنشر لعامة الشعب.([39])
ويرتكز هذا النظام الخاص بالتقارير على فكرتيْن أساسيتَيْن حول كيفية تحقيق الحياد والمساءلة في عملية الملاحقات القضائية بتهمة الفَسَاد؛ الفكرة الأولى: وهي أنه عند تقديم التقارير لكلا الجهتين على حدٍّ سواءٍ ستمنع إحداهما الأخرى من تضليل البرلمان والشعب حول دورها في مُكافَحَة الفَسَاد، والثانية: أنه إذا استمر النائب العام في تباطُؤه في محاربة الفَسَاد وإحضار المشتبه بهم للمحكمة، سيتوفر المزيد من الأدلة للشعب والمحكمة لتحديد ما إذا كان بالفعل يعرقل معركة البلاد ضد الفَسَاد، وينطبق الشيء نفسه على نظام المحكمة؛ إذا استمرت المحكمة في تجاهل قضايا الفَسَاد، سيكون كل ذلك موثَّقًا بالمستندات لبيان أي جزء من الحكومة يتَباطَأ في مُكافَحَة الفَسَاد.([40])
كما تم تشكيل محاكم متخصصة لمُكافَحَة الفَسَاد وقضاياها بواسطة قانون مُكافَحَة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة الصادر عام 2003م، والتي يترأسها قضاة متخصِّصون، ويأتي التعامل مع قضايا الفَسَاد على رأس أولويات عمل تلك المحاكم، حيث تبذل اللجنة القضائية مجهوداتٍ مُضنيةً من أجل تعزيز قدرات تلك المحاكم لمعالجة قضايا الفَسَاد، وذلك بتعيين قضاة متخصصين للحكم في تلك المسائل. وينص قانون مُكافَحَة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة (ACECA) في الباب الرابع على أن الجرائم الخَاصَّة بذلك القانون سوف تُنظر قضائيًّا أمام قضاة متخصصين فقط، وذلك على الرغم من اشتمال قانون الإجراءات الجنائية، أو أي قانون آخر قيد التنفيذ، على جميع التفاصيل القانونية، ولذلك ففي القضية الشهيرة التي اختَصَمَتْ فيها الدولة “رافائيل أ. أليجانا” (Raphael A. Aligana) وآخرين، قضى رئيس القضاة بأن المحاكم الجزئية الخَاصَّة هي الوحيدة التي “يمكنها الفصل في الجرائم المنصوص عليها من قِبل قانون ACECA .([41])
وطبقًا للمادة (7) من هذا القانون (AECCA)؛ فإنه يحق للجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد KACC)) التحقيق أو تلقي شكاوَى في أي مسألة، بناءً على طلب الجمعية العامة، أو الوزير المسئول عن قضايا النـزاهة، أو النائب العام، أو بمبادرة منها. وعلاوةً على ذلك، تنص المادة (10) من هذا القانون (AECCA) على أن لجنة مُكافَحَة الفَسَاد لا تخضع لتوجيه أو مراقبة أي شخص أو سلطة في أداء مهامها، ولكن عليها أن تكون مسئولة أمام البرلمان.([42])
ولكنْ، وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها قانون مُكافَحَة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة (ACEC) لمنح سلطة حقيقية للجنة مُكافَحَة الفَسَاد لمحاربة الفَسَاد، إلا أن هذا القانون قد تَعرَّض لانتقادات تُضعِف من عمل هذا القانون، ويمكن تلخيصها في الآتي: –
الانتقاد الأول: أن قانون مُكافَحَة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة لم يخوّل لجنة مُكافَحَة الفَسَاد التي أنشأتها سلطة الادعاء العام، ويعود هذا النقد إلى التاريخ الفاشل للهيئة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد بكينيا
(Kenya Anti-Corruption Authority(KACA))، حيث تَهَّرب مكتب النائب العام طويلاً وأبدى عدم الرغبة في ملاحقة قضايا الفَسَاد المُوصَى بها من قِبَل هيئات مُكافَحَة الفَسَاد، التي من المفترض أنها تعمل بالتنسيق معها؛ فبدون منح لجنة مُكافَحَة الفَسَاد سلطة الادعاء، ستصبح في النهاية فاشلةً في التحقيق في قضايا الفَسَاد التي ستنتهي لا محالة على مكتب المدعي العام.([43])
والانتقاد الثاني: للهيئة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACA) هو أن سلطاتها في مُكافَحَة الفَسَاد لا تزال غير مُترسِّخة في الدستور الكيني، وواجهت اللجنة أيضًا هذه المشكلة خلال فترة عملها كوكالة لمُكافَحَة الفَسَاد، فكان من الممكن منع قرار “جاشيانجو” (Gachiengo) بحَلِّ اللجنة عام 2000م لو كانت الهيئة قد مُنِحَت تفويضًا دستوريًّا. وهكذا، فإن غياب أساسٍ دستوري ما زال يترك شكوكًا بشأن صلاحياتها، فعلى سبيل المثال، تم التشكيك في شرعية صلاحيات الهيئة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد KACA الدستورية في إلزام المتهمين بارتكاب مخالفات بالإعلان عن ممتلكاتهم.([44])
وأخيراً، يُلاحظ أن تَحكُّم البرلمان والسُّلْطَة التنفيذية في تشكيل وصلاحيات هيئات مُكافَحَة الفَسَاد في كينيا يؤثر سلبًا على عمل هذه الهيئات.
ثانياً: قانونُ أخْلاقيَّات الموظف العام الصادر عام 2003م
يعتبر قانون أخلاقيات الموظف العام (POEA) هو الأولَ من نوعه في كينيا، وكان غرضه مختلفًا عن غيره من القوانين والتشريعات التي تم تمريرها من قِبَل البرلمان الكيني؛ حيث كان غرض هذا القانون هو دفع وتعزيز القواعد الأخلاقية للمُوظَّفين العُموميين من خلال توفير قانونٍ لسلوكيات وأخلاقيات المُوظَّفِين العُمُومِيِّين، وكان هذا جزءًا من سياسة مُكافَحَة الفَسَاد الواسعة التي تبنَّتْها الحكومة الكينية مع بداية الألفية الجديدة، حيث كانت ترتكز التشريعات قبل ذلك على تحديد السلوك الفاسد وكيفية معاقبة مرتكبيه بشدة.([45])
ويعتبر هذا القانون (POEA) انعكاسًا لما اتفقتْ عليه الدول الأفريقية طبقًا لاتفاقية مُكافَحَة الفَسَاد بالاتِّحَاد الأفْرِيقِي، حيث ألزمت الموظَّف العام بتقديم إقرار الذمة المالية عند تولِّيه الوظيفة، بل وأثناء فترة عمله، وفي نهاية الخدمة، ويقوم قانون أخلاقيات الموظف العام بإخضاع الأفراد للمساءلة عن مصدر ثرواتهم (مبدأ: مِن أين لك هذا؟)، وذلك من خلال ما يقدِّمونه من إقرار الذمة المالية، والإدلاءُ بمعلومات خاطئة أو مضلِّلة في الإقرار قد يؤدي لفرض العقوبات الخَاصَّة لقانون مُكافَحَة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة ((ACECA على هؤلاء الأفراد. ([46])
ومن الجدير بالذكر أنه إذا كان الهدف من إقرار الذمة المالية هو مراقبةَ الموظف العام وكذلك عدم استغلاله لوظيفته في التكسُّب بالإثراء غير المشروع، فمثل تلك المعلومات تعتبر سرية ولا يمكن الوصول إليها من قِبَل أيِّ شخص غير مخوَّل بهذا، ولذلك تعتبر هذه الإقرارات وسيلةً ضعيفة في ترسيخ الأخلاقيات في الحياة العامة؛ لكونها ليست متاحة لقطاع واسع من الجمهور، حيث إنها في النهاية لا تَعْدُو إلا أن تكون سِجِلاً للأسرار عِوَضًا عن كونها إقرارًا للذمة المالية.([47])
المَطْلَبُ الثَّاني
الإطَارُ المُؤسَّسِيُّ لمُكافَحَة الفَسَاد في كينيا
تعد اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACC) هي الآليةَ المُؤسَّسِيَّة الرئيسية في كينيا لمعالجة أمور الفَسَاد، وهي تعمل تحت وِصايةٍ صريحةٍ من قانون مُكافَحَة الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة 2003م، وهناك مُؤسَّسَاتٌ أخرى؛ مثل: النائب العام، ووزارة العدل والشئون الدستورية، وقسم الحَوْكَمَة والأخلاقيات، ومكتب الرئاسة، كلها تشارك في مُكافَحَة الفَسَاد، ولكن فقط كمُؤسَّسَات عَرَضِيَّة طارئة تُعطي تَوْصِياتٍ عامة.([48])
بدأ الاهتمام بالجانب المؤسسي لمكافحة الفساد في كينيا عام 1991م، عندما تم تشكيل فرقة شرطة كينيا لمحاربة الفَسَاد كي تتزعم الحرب على الفَسَاد. تم ذلك خلال الفترة التي كانت فيها الحكومات الأفريقية تتردَّد في الاعتراف بوجود ظاهرة الفَسَاد بين صفوفها، واعتبر الكثيرون من الباحثين أن القرار الذي اتخذه الرئيس الكيني “موي آراب دانييل” بتكليف فرقة من قوات الشرطة لمحاربة الفَسَاد يتَّسِم بعدم الجِدِّيَّة؛ وذلك لِما يُعرف عن أفراد الشرطة في تلك الآونة مِن أنهم مِن أكثرِ موظفي القطاع العام فسادًا. وبناءً على ذلك، فمن المُحال أن تحارب هذه القوة الفَسَاد، بل كان محكومًا عليها بالفشل منذ تشكيلها، وبدلاً من محاربتها للفساد أصبحتْ هي الوسيطَ الرئيسي لصفقات فساد ضخمة في البلاد. وبحلول عام 1996م، أصبحت فكرة محاربة الشرطة للفساد أمرًا لا يمكن قَبُولُه، وفي النهاية تم حل هذه الفرقة.([49])
وتجدُر الإشارة هنا إلى أن عام 1991م هو العام الذي تم الأخْذُ فيه بنظام التعدُّد الحزبي، وتغيير النظام الانتخابي، وهذا ما ألزم الحزب الحاكم باتخاذ مجموعة من الإجراءات لمُكافَحَة الفَسَاد تتماشَى مع التوجه الجديد للنظام السياسي، وهذا من الممكن أن يكون سببًا من الأسباب الرئيسية لتشكيل فرقة مُكافَحَة الفَسَاد، بعد ضغط دُولي من الدول المانحة للمساعدات.
تلا ذلك تأسيسُ الهيئة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد في كينيا عام 1997م (Kenya Anti-Corruption Authority (KACA)) الخاضعة لقانون الفَسَاد المؤجَّل منذ حِقبة الاستعمار (قانون 65 لعام 1956م)، وتعتبر لجنة مُكافَحَة الفَسَاد في كينيا المحاولةَ الأولى في محاربة الفَسَاد في البلاد بصورة جادة، إلا أنه ثبت خطأ هذا الافتراض؛ حيث إن اللجنة لم تبدأ عملياتها بخُطًى ثابتةٍ، حيث أمر رئيس البلاد بتشكيل لجنة تحقيق على إثْرِ المشادَّة الكلامية بين كلٍّ من مدير اللجنة ووزير المالية بعد إصدار الأول أمرًا باعتقال ثلاثة من كبار مسئولي الوزارة واتهامهم بالفَسَاد.([50])
وتم عزل مدير لجنة مُكافَحَة الفَسَاد بعد ذلك بناءً على حكم جنائي من المحكمة، حيث تم فصل أول مدير للجنة مُكافَحَة الفَسَاد بعد ستة أشهر فقط من تولِّيه منصبه، والذي تقلده بعده قاضٍ من المحكمة العليا أوائل عام 1998م.([51]) وقام رئيس البلاد بتعيين مدير آخر لرئاسة لجنة مُكافَحَة الفَسَاد، وصاحب المنصب الجديد كان من السلك القضائي، وتحت قيادته؛ انطلقت لجنة مُكافَحَة الفَسَاد في كينيا من جديد، ولكن هذه المرة بتوجُّهٍ وتركيزٍ إستراتيجيٍّ أفضل، حيث تم القبض على عدد من المسئولين رفيعي المستوى، وكذلك مجلس الوزراء والعديد من الأمناء الدائمين واتهامهم بالفَسَاد، وكانت هذه السابقة الأولى في كينيا التي يتم فيها القبض على مسئولين رفيعي المستوى واتهامهم بالفَسَاد.([52])
ويلاحَظ هنا أن عام إنشاء لجنة مُكافَحَة الفَسَاد، وهو عام 1997م، يوافق عام الانتخابات الرئاسية في كينيا، ويمكن تفسير ذلك بأن الرئيس “موي” قام بتأسيس هذه اللجنة؛ للحصول على دعم دولي من خلال حصوله على مساعدات لدعم حملته الانتخابية، وأيضًا للحصول على دعم داخلي وإرضاء الشعب الكيني.
ولكن سُرعانَ ما واجهتِ الهيئة تحديًا دستوريًّا في المحكمة العليا؛ حيث تم تقديم التماس من قِبَل أحد المتهمين في إحدى القضايا، وكانت حُجة مُقدِّم الالتماس أن جَعْلَ لجنة مُكافَحَة الفَسَاد في كينيا، والتي هي جهةٌ لتنفيذ القانون، تحت رئاسة قاض تتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات.([53])
وفي ديسمبر 2000م، أكدت المحكمة العليا في قضية “جاشيانجو” (Gachiengo) ضد الجمهورية أن وجود اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACC) يُضعِف السلطات المخوَّلة لكلٍّ من المُدَّعِي العام ومندوب الشرطة بمُوجِب دستور جمهورية كينيا. وإضافةً إلى ذلك ادَّعت المحكمة العليا أن الأحكام القانونية التي يستند إليها تأسيس اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACC) تتعارض مع الدستور؛ الأمر الذي أدى إلى حل اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACC) وإلغاء قانون منع الفَسَاد رقم (65).([54])
وفي عام 2001م، حاولت كينيا سَدَّ الفراغ الذي تركته لجنة مُكافَحَة الفَسَاد، وكان هذا أيضاً لغرض إرضاء المانحين الدوليين والذين أوقف معظمهم المساعدات عن كينيا؛ بسبب قرار المحكمة الدستورية بحل الهيئة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACA)، وفَشَل البرلمان في تمرير تعديل دستوري خاص بإعادة اللجنة إلى عملها، وكان الحل في إنشاء أي مؤسسة لمُكافَحَة الفَسَاد وتحت أي مسمى، خَاصَّةً أن الانتخابات العامة لعام 2002م يتم الاستعداد لها من قِبَل الحزب الحاكم آنذاك (كانو).
وبناءً على هذا؛ صدر منشور رئاسي عام 2001م بتأسيس لجنة أخرى خلَفًا للهيئة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد في كينيا (KACA)، أُطلق عليها اسم وَحْدَة شرطة كينيا لمحاربة الفَسَاد، ويترأس هذه الوَحْدَة ضابط شرطة يقوم رئيس الدولة بتعيينه في منصبه، ولكن بعد عام واحد تم استبدال رئيس الشرطة بضابط آخر، كما حدث مع سابقتها (فرقة الشرطة)، وفي تلك الفترة عَلَتْ وتيرة محاربة الفَسَاد في البلاد بشدةٍ وصلت إلى درجة عدم اعتراف المواطنين بجهاز الشرطة، ولم تقم هذه الوَحْدَة بأي عملٍ في ظل قيادة الشرطة؛ يستدعي انتباه أو تعليق الشعب، وانتهى وجود الوَحْدَة بهزيمة الحزب الحاكم (كانو) في الانتخابات العامة 2002م، وكانت هزيمة الحزب الحاكم لمدة 40 عامًا منذ استقلال البلاد بمثابة نقلة نوعية في الحرب ضد الفَسَاد.([55])
ومع وصول الرئيس “مواي كيباكي” مرشح المعارضة إلى السُّلْطَة في كينيا عام 2002م، والذي رفع شعار مُكافَحَة الفَسَاد في حملته، ظهرت عدة آليَّات لمُكافَحَة الفَسَاد على المستوى الوطني، كما انضمت كينيا مبكراً إلى بُروتوكول الاتِّحَاد الأفْرِيقِي لمُكافَحَة الفَسَاد، فقد شهدت جهود مُكافَحَة الفَسَاد دَفْعَةً واضحةً عَقِب انتخابات “كيباكي”، على الأقل على المستوى الشكلي والإجرائي. فبعد تولي “كيباكي” بشهور قليلة، تأسَّست اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACC)، كما تأسس المجلس الاستشاري الكيني لمُكافَحَة الفَسَاد وبدأت اللجنة عملها في أكتوبر من عام 2003م؛ أي نفس العام الذي تأسست فيه، فضلاً عن تعيين “جون جيثونجو” (John Githongo)، مؤلف فصل كينيا في تقرير الشفافية الدولية، سكرتيراً لقطاعٍ استُحدث “للنـزاهة والحكم الرشيد”. وقد صدرت كل تلك المؤشرات الإيجابية حول التزام كينيا بالحد من الفَسَاد ومحاربته في غضون شهور قليلة من تدشين بُروتوكول الاتِّحَاد الأفْرِيقِي حول مُكافَحَة الفَسَاد، وتزامنتْ مع توقيع كينيا عليه.([56])
وفي تلك الفترة التي شهدت تطورات إيجابية على صعيد مُكافَحَة الفَسَاد في ظل إرادة سياسية واضحة لمُكافَحَة الظاهرة وارتباطات بأُطُر إقليمية ودولية لتعزيز الشفافية، تم فضح جرائم من الفَسَاد الكبير، تورَّط فيها كبار مسئولي الدولة منذ التسعينيات من القرن الماضي، أهمها فضيحتا “جولدنبرج” و”أنجلو-ليسنج”. وقد تولت لجنة قضائية التحقيق في قضية “جولدنبرج”، بينما تولت اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد برئاسة “جون جيثونجو” التحقيق في قضية “أنجلو-ليسنج”.([57])
ولكنَّ إقرار آليَّات مُكافَحَة الفَسَاد في كينيا والانضمام للأُطُر والاتفاقيات الإقليمية والدولية لمُكافَحَة الفَسَاد لم يكن له النتائج المطلوبة في مُكافَحَة ظاهرة الفَسَاد؛ حيث ظهرت مستوياتٌ عالية جدًّا من الفَسَاد عام 2003م، ونتج عن ذلك اعتداءٌ مُمَنْهَجٌ على وكالات مُكافَحَة الفَسَاد. وقد حدث ذلك بالفعل في عهد “جون جيثونجو”، وفي نهاية عام 2004م؛ تحديدًا بعد 18 شهراً من تولِّيه منصبه، ومع وجود أدلة على الفَسَاد الهائل في حكومة “كيباكي”، بدأ كبار المسئولين التحرك ضده، حيث قام “كيباكي” بنقل قسم “جون جيثونجو” من مكتب الرئيس إلى وزارة العدل والشئون الدستورية؛ مما قد يُجرِّده من الحماية الرئاسية. وواجهت هذه الخطوة احتجاجات فورية من المجتمع المدني والدولي وتم إعادة “جون جيثونجو” إلى مكتب الرئيس خلال أيام، وكانت هذه بدايةً لصراع الشبكات داخل مجلس الوزراء، حيث تمت إثارة مخاوف الشبكة المُهيمِنة بأن تحقيقات “جيثونجو” قد تؤدي إلى تهديد موقفهم. وفي يناير 2005م؛ وبعد عامين من ترك بصمته، استقال “جيثوجو” وهرب إلى المَنفَى الذي فرضه على نفسه خوفًا على حياته.([58])
ولقد أدَّى رحيل “جيثوجو” إلى تجمُّد دور أمانة النـزاهة والحكم الرشيد، بينما واصلت اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد KACC)) هذا الدور، والتي عُين لرئاستها القاضي “رينجيرا” (Ringera) عام 2004م، والذي كان مديراً سابقاً للجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد KACA)) في عام 1998م.
لقد كانت قيادة “رينجيرا” في اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACC) أكثرَ توازناً وحذراً، ولكنها لم تكن بنفس الفاعلية السابقة، وليس من المهم ما إذا كان هو واللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACC) قد عرقلوا العدالة أم حاولوا فقط التكيُّف مع الواقع السِّيَاسِي الذي يعملون فيه؛ ففي الحالتيْنِ انخفض أداء لجنة مُكافَحَة الفَسَاد بشكل كبير خلال ولايته ولم تحقِّق أي نتائج، وكان التصور الدائم أن نظام اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACC) بقيادة القاضي “أرون رينجيرا” تَبْرَعُ في مطاردة مرتكبي الجرائم البسيطة، في حين أنها تتملَّص من مطاردة ومحاسبة زعماء عصابات الفَسَاد الكبير (السياسي).([59])
ولم تَستطِعِ اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد بقيادة “رينجيرا” أبداً اكتسابَ ثقة الشعب، ووصلتِ الأمور ذِروتها نهاية الدورة الأولى لمدير اللجنة، في مواجهة صخَبٍ شعبيٍّ يطالب بتغيير قيادة اللجنة.([60])
وبناءً على ذلك؛ قدَّم القاضي “رينجيرا” استقالته في 30 سبتمبر 2009م؛ حيث استقال من منصبه كمسئول عن اللجنة الكينية مُكافَحَة الفَسَاد KACC)).([61])
وتزامن عام 2010م مع صدور دستور جديد لكينيا، وأعاد الدستور تعريف المشهد الحاكم في البلاد بشكل جِذْري، وفي سياق مُكافَحَة الفَسَاد بشَّر الدستور بإعادة هيكلة السُّلْطَة القضائية في البلاد لتضمن استقلالها في المحافظة على حقوق الشعب الأساسية بمُوجِب إعلان حقوق المواطنين، ومع ذلك من المُستغرَب تراجُع واضعي الدستور عن ترسيخ لجنة مُكافَحَة الفَسَاد في الدستور، وتُرِكَتْ هذه المهمة للبرلمان لإنشاء مؤسسة جديدة وتحديد سلطاتها.([62])
صاحَب صدور دستور 2010 إنشاءُ لجنة الأخلاقيات ومُكافَحَة الفَسَاد
(The Ethics and Anti-Corruption Commission-EACC) لتحل مَحَل سابقتها “اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد” (KACC) مخوَّلةً بسلطة تحقيق في الفَسَاد والجرائم الاقْتِصَادِيَّة، وكذلك رفع الوعي حول التأثير المدمِّر للفساد، ورغم أنه يمكن منح سلطات النيابة العامة للجنة الأخلاقيات ومُكافَحَة الفَسَاد (EACC) من قِبَل البرلمان إلا أنها استمرت في إحالة القضايا للنائب العام.([63])
تولَّى “باتريك لومومبا” (Patrick Lumumba) إدارة اللجنة بعد رفض البرلمان محاولة “كيباكي” لتجديد تعيين حليفه “رينجيرا” -بالإرادة المنفردة- في منصب رئاسة اللجنة في 2010م مما كان يُنظر له بأنه تطوُّر إيجابي كبير، وأعاد “لومومبا” فتح قضايا “جولدنبرج” و”انجلو-ليسنج” مما يعني التحقيق مع ما لا يقل عن 4 وزراء و50 من كبار المسئولين والبرلمانيين، فتم عزله من منصبه بصورة مفاجئة في أغسطس 2011م؛ مما يُظهر عدم وجود إرادة سياسية عند النُّخْبَة في التصدي بفاعلية للمستويات العليا للفساد.([64])
المَطْلَبُ الثَّالِثُ
دور اللِّجان في مُكافَحَة الفَسَادِ فى كينيا
وفقًا لتقريرٍ استقصائي سرَّبه موقع ويكيليكس Wikileaks عام 2007م؛ فإنه في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، قام الرئيس “موي” والمقربون منه بغسل مليارات الدولارات؛ حيث كان الرئيس يمتلك خمسين شركة في أنحاء كينيا، كما كان شريكًا في مِلكِية أحد البنوك البلجيكية، ومن ضمن ممتلكاته، فنادق ومساكن في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وجنوب أَفْرِيقيا، ومزرعة تبلغ مساحتها عشرة آلاف فدان في أستراليا. وإلى جانب جمع الثروة الشخصية، قام “موي” وحلفاؤه بتحويل الأموال من أجل تمويل الانتخابات. وقد كانت الفضيحتان الرئيسيتان (جولدنبرج Goldenberg وأنجلو-ليسنجAnglo Leasing ) مرتبطتيْنِ بشكل مباشر بالحاجة إلى تمويل الانتخابات. وقد تكشَّفَتْ فضيحة جولدنبرج في عهد “موي” في إطار نظام متعدِّد الأحزاب، في حين أُعلن عن فضيحة “الأنجلو- ليسنج” بعد مرور خمسة عشر شهراً من تولِّي إدارة “كيباكي”.([65])
وتعتبر فضيحتا “جولدنبرج” ((Goldenberg و”الأنجلو-ليسنج” (Anglo Leasing) الفضيحتَيْنِ الرئيسيتَيْنِ في كينيا؛ لِمَا لهما من تأثير مباشر ومكلف على الاقتصاد الكيني، إضافة إلى استخدام الأموال المنهوبة من وراء الفضيحتيْن في الفَسَاد السِّيَاسِي (تمويل أحزاب – فساد العملية الانتخابية)؛ وعليه سيتم مناقشة الفضيحتيْن باعتبارهما مثالا واضحًا على الفَسَاد السِّيَاسِي في كينيا، وذلك بالتركيز على عمل لجان التحقيق والنتائج التي توصلتْ إليها هذه التحقيقات.
أولاً: فضيحة جولدنبرج:
هزَّت فضيحة “جولدنبرج” اقتصاد كينيا منذ عام 1990م، وكلَّفتِ البلادَ مبلغاً ضخماً، قدْرُه 500 مليون دولار في عدة صفقات مشبوهة([66]). وقد سارت القضية على النحو التالي:
في عام 1990م، وَضَعتِ الحكومة الكينية خطةً تهدف إلى دعم المُصدِّرين، ووافقتِ الحكومة على أن تدفع للشركات مكافأة قدرها 20 بالمائة من قيمة بضاعتها المُصدَّرة إذا قامت باستبدال العملة الأجنبية بالشلن الكيني. بالإضافة إلى ذلك، عَرَضت الحكومة دفع 15 بالمائة من ائتمانات التصدير لدعم المُصدِّرين خلال الفترة ما بين شحن البضائع وتلقِّى المدفوعات. وفى نفس العام، وبينما كشفت الحكومة النقاب عن هذا المخطط، قام “كاملش باتني” (Kamlesh Pattni) ، وهو رجل أعمال كيني من أصول آسيوية، و”جيمز كانيوتو” (James Kanyotu)، مدير التحقيقات الجنائية في الشرطة الكينية، بإنشاء شركة “جولدنبرج” الدولية المحدودة. ووعدت الحكومة بأنها سوف تكسب حوالي 50 مليون دولار أمريكي من صادرات الذهب والماس، وتصبح مستفيدة من الخطة المذكورة، وبعد ذلك تم منح شركة “جولدنبرج” الدولية المحدودة حقَّ احتكار تصدير هاتيْن السلعتيْن، على الرغم من حقيقة أن كينيا لا تملك احتياطات من الماس، وتمتلك فقط كميات محدودة من الماس والذهب لا يكفى للتصدير.([67])
بعد فترة وجيزة، بدأت شركة “جولدنبرج” الدولية في إرسال مكافأة صادراتها ومطالبات الائتمان (والتي يصل مجموعها إلى 35 بالمائة من قيمة التصدير) إلى البنك المركزي الكيني. وعلى مدى العامين التالييْن، من خلال سلسلة من الأوراق المزوَّرة، قام محافظ البنك المركزي الكيني بتخصيص ودفع ملايين الدولارات كتعويضات تصدير “جولدنبرج” مقابل ذهب وماس وهميَّيْن من كينيا. فعلى سبيل المثال، قام البنك بتحويل 7 مليارات شلن كيني (تعادل في ذلك الوقت 120 مليون دولار أمريكي) إلى الشركة.([68])
وفى وقت مبكر من عام 1990م، أصدرت إدارة الصرف في البنك المركزي مبادئ توجيهية مكتوبة لـ”جولدنبرج” بشأن الإجراءات الصحيحة التي يجب أن تتبعها قبل أن يكون بإمكانها أن تتقدم بشكل قانوني للمطالبة بتعويض التقدير، ولكن كان من الواضح أن شركة “جولدنبرج” لم تلتزم بهذه الإرشادات؛ لأن بعد ذلك بوقت قصير بدأت مسئولةٌ في إدارة مراقبة الصرف في البنك المركزي الكيني، وهي السيدة “جاسينتا وانجالا مواتيلا” (Jacinta Wanjala Mwatela)، في طرح أسئلة مُحرِجة في خطاب مُقتَضَب كتبتْه للسيد “باتني” وأرسلت لمشرفها المباشر السيد “تي كاي بايرتش كورونا” (T.K. Birech Kuruna) اشتكت من أن هناك “الكثيرَ من التناقضات” في الوثائق التي كانت “جولدنبرج” تقدِّمها، مثل عدم مَلْءِ نماذج (CD3) بشكل صحيح، إضافة إلى التحويلات الغريبة التي تُجرى بالعملة المحلية والفواتير المزوَّرة التي تدعم الصادرات الوهمية في الظهور.([69])
وإزاء كل الأدلة على وجود تزوير واسع النطاق، تم رفض اعتراض دائرة مراقبة الصرف بواسطة رئيسها العام (محافظ البنك المركزي “إريك كوتات” Eric Kutut)، والذي كان يأمر بمواصلة معالجة مطالبات تعويض التصدير الضخمة لصالح شركة “جولدنبرج”. كما تم استدعاء السيدة “مواتيلا” إلى اجتماعٍ مغلقٍ في مكتب “كوتو”، كَتَبتْ على إثره مذكرةً إلى “كورونا” أشارت فيها إلى أنها سوف تعمل من الآن فصاعداً وفقًا لتعليمات رؤسائها. ومن الواضح أن السيدة “مواتيلا” كانت تجهل الكثير، وأن هناك شخصية مرموقة جداً في البنك المركزي، بل أعلى من ذلك، تريد إبقاء الأمور على هذا النحو([70]). أيضاً عندما رفض مدير إدارة الجمارك والضرائب دفع هذه التعويضات، أمر السيد “سايتوتي” ((Saitoti بصفته وزير المالية بدفع هذه التعويضات من وزارة الخزانة.([71])
لقد تضمنت فضيحة جولدنبرج أموال غير قانونية من وزارة المالية (MOF) والبنك المركزي خلال 1990 -1993م (كانت “جولدنبرج” الدولية هي الشركة التي تتلقى الدفعات). لقد كان حجم الفضيحة كبيرًا، ومجموعة القنوات المستخدمة كثيرة وتصادَف وقوعها مع انتخابات عام 1992م، مع عدم وجود متابعة قانونية فاصلة([72]).
عمِلت شركة جولدنبرج الدولية حتى عام 1992م مع قليل من الشكاوى والاهتمامات – إن وُجدت – من قِبَل الحكومة أو العامة بعد ذلك. ففي الثاني من يونيو 1992م، قام رئيس الوزراء “جيلو فولانا” Fulana) (Jilo بإثارة سؤال عن طريق ملاحظة خَاصَّة إلى وزير المالية، وكان السؤال ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: أولاـ لماذا مُنحت شركة “جولدنبرج” احتكاراً لتصدير الذهب والماس والمجوهرات لمدة عامين؟ ثانيًاـ ما مقدار العملات الأجنبية التي اكتسبَتْها الحكومة خلال هذه الفترة؟ ثالثًاـ هل خرجت المجوهرات الماسية والذهب المدرج في استمارة الإفصاح الضريبي رقم 453534 برخصة رقم 746 في 30 يناير 1991 خارج البلاد أم لا”؟([73])
وقام بالإجابة عن هذا السؤال كلٌّ من مكتب الوزير المساعد لنائب الرئيس، والسيد “كياه” Keah)) وزير المالية. وقد كان جليًّا أن الإجابة على الشق الأول من السؤال ما هي إلا “كذبة واضحة”. وكانت إجابته أنه تم منح الاحتكار لشركة “جولدنبرج الدولية” عام 1991م؛ لأنها ببساطة قد أظهرت خلال الشهرين اللذَيْن عملت فيهما الشركة في عام 1990م إنجازاً يفوق إنجاز 78 شركة أخرى مُجتمِعةً في ذات المجال. هذه الإجابة والإجابات الأخرى التي قدَّمها الوزير المساعد لم تُرضِ “فولانا” Fulana)) ولا أعضاء آخرين في البرلمان، ومِنْ ثَمَّ طلبوا لاحقاً إجابة أفضل؛ ومن هنا تم تسليط الضوء رسمياً على عمليات شركة “جولدنبرج” الدولية.([74])
ولقد أثار المفتشُ والمدقِّقُ العام الموضوعَ لاحقاً في تقريرٍ، فحصتْه لجنة الحسابات العامة، وقامت بسؤال الأفراد المَعْنِيِّين، والذين من بينهم السيد “باتنى”، ولم يتم التوصل إلى شيء مُثمِرٍ من هذا التحقيق. بل طلبت لجنة الحسابات العامة في البرلمان، والتي يرأسها السيد “أوجنجا ودينجا”
(Oginga Odinga) بعد مقابلته للسيد “باتني”، بأن يستمر في عمله؛ لأنه رجل أعمال ناجح جداً([75]).
تجدر الإشارة إلى أن الشكاوَى المقدَّمة في شركة “جولدنبرج” الدولية، كما هو الحال مع تلك الخَاصَّة بإدارة مراقبة الصرف في البنك المركزي، كان يتم تقديمها بشكل روتيني للسلطات المالية في وزارة الخزانة، وتحديداً لوزير المالية وسكرتيره الدائم. والغريب أنه لم يتم اتخاذ أي إجراء ضد الشركة، بل كان مسئولو وزارة الخزانة يقومون بإصدار تعليمات محدَّدة للبنك المركزي لتقديم تحويلات نقدية محددة لدعم صفقات “باتني” غير الشرعية. وعندما تم الإعلان عن ذلك، كان كبار المسئولين في الحكومة متحمِّسين بشكل موحَّد بشأن الدفاع عن “جولدنبرج”.([76])
ففي 21 إبريل 1992م، وصف السكرتير الدائم في وزارة المالية الدكتور “ولفرد كاروجا كوينانج” ((Wilfred Karuga Koinange اقتراح “جولدنبرج” الخاص لصادرات الذهب والماس “التجريبية” بأنه ناجح جداً. وفى الشهر نفسه، كان مُفوض المناجم والجيولوجيا السيد “سي واي أُوايو”
((C.Y.O Owayo، يؤكد أن جميع صادرات “جولدنبرج” كانت بحسَبِ القانون، حيث يتم بحثها، وتقييمها، والتحقُّق منها، والتصديق عليها بواسطة مسئول من المناجم، وفى وجود مسئول الجمارك، والذي يضع أيضاً خَتْم إدارة الجمارك، وكان هذا غير صحيح تماماً، مثلما كشفت الشكاوى التي كانت تخرج من مكتب السيدة “مواتيلا” وإدارة الجمارك.([77])
ووفقا لنائب الرئيس السيد “سايتوتي”، والذي تم استجوابه أمام البرلمان عام 1999م، فإن مقترحات “جولدنبيرج ومسألة تفويضات التصدير التفضيلية “تمت الموافقة عليها بواسطة مجلس الوزراء بأكمله”. وبعبارة أخرى، لم تأتِ السُّلْطَة وراء “جولندبرج” من محافظ البنك المركزي ووزير المالية وحدَهما، بل من أعلى هيئةٍ في الدولة؛ مجلس الوزراء، “ويبدو أن الخُدعة استمرت حتى وصول بعثة زائرة من صندوق النقد الدولي (IMF) في عام 1994م”.([78])
ومن هنا تَكَشَّف الغطاء عن فضيحة “جولندبرج” وأصبحت الحكومة على ما يبدو قلِقةً بشأن الأسئلة المطروحة حول “جولندبرج” وبنك تداول العملات. فعلَّق صندوق النقد الدولي قروضه لكينيا، وقامت الحكومة بمقاضاة “باتني”، وشركة “جولندبرج” الدولية المحدودة، ووزير الخزانة السابق “ولفرد كاروجا كوينانج”، ونائب محافظ البنك المركزي السابق “إليفاس ريونجو”((Eliphas Riungu، بتهمة سرقة 5.8 مليار شلن كيني من الحكومة بين سبتمبر 1992 وأكتوبر 1993م.([79])
اكتشف السيد “ميكاه تشيسرم” Micah Cheserem))، المحافظ الجديد للبنك المركزي الكيني، أن عمليات الاحتيال تبلغ حوالي 210 مليون دولار أمريكي. وفى تلك الأثناء، استمر الضغط من الداخل ومن المانحين الدوليين، ليتم مقاضاة الجناة المسئولين عن أعمال شركة “جولندبرج”؛ الأمر الذي دفع السيد “موساليا مودفيدي” ((Musalia Mudavadi، وزير المالية عام 1994م، بفتح تحقيق جنائي في المزاعم الخَاصَّة بدفع دفعات غير مشروعة، حيث وَجَّه خطابيْن؛ أحدهما إلى المفتش العام للتحقيق في الحسابات 1993 – 1994م، والآخر لمدير قسم التحقيقات الجنائية (Criminal Investigation Department (CID)) يَطلُب منه إجراء تحقيقات جنائية ضد عدد من الأفراد؛ منهم السيد “باتني”.([80])
وبدأت الشرطة التحقيقات في هذا الوقت بناءً على إصرار السيد “تشيسرم” المدير الجديد للبنك المركزي الكيني، “ولاحظنا بالفعل أن التحقيقات وما يترتب عليها من ملاحقة كانت انتقائية”، لكن قبل أن تبدأ هذه التحقيقات كانت الجمعية القانونية الكينية قد بدأت تحقيقاتُها الخاصة. كان هذا التحقيق رقم (1) لعام 1994م لجمعية القانون في كينيا ضد المتهمين في قضية “جولندبرج”. كما تحرك النائب العام بسرعة لينضم إلى التحقيق كصديقٍ للمحكمة، واعترض على التحقيقات على أساس أنه كان عليه القيام بتحقيقاته الخاصة، ونتيجةً لذلك، كانت الجمعية القانونية في كينيا هيئة مسئولة دون حق المثول في التحقيق في قضية غش “جولندبرج”، وأيَّدت المحكمة هذا الطلب، وتم رفض التحقيقات الخاصة.([81])
بعد ذلك، قدَّم السيد “رايلا أودينجا” (Odinga (Raila، رئيس الوزراء السابق والرئيس السابق للجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد، دعواه الخَاصَّة رقم 107 لعام 1995م ضد المتهمين في قضية جولندبرج. ومرة أخرى تحرك النائب بسرعة ليُنهى هذه التحقيقات.([82])
وقد عجَّلت فضيحة “جولندبرج” بتأسيس أول هيئة لمُكافَحَة الفَسَاد عام 1997م، وتم ذلك عن طريق ضغط من المُؤسَّسَات المالية الدولية، ولم يكن لدى مديرها الأول “جون هارون مواو”
(John Harun Mwau) ومعاونيه خططٌ جيدة لمُكافَحَة الفَسَاد. “ففي الواقع لم يكن “جون هارون” هو الاختيارَ الأمثل لقيادة مؤسسة لمُكافَحَة الفَسَاد ومن الواضح أنه تم تعيينه في منصب رئاسة الهيئة الاستشارية لمُكافَحَة الفَسَاد مقابل انسحابه من انتخابات الرئاسة 1997م”. وبناءً على هذا الوضع، تم تعيين “مواو” Mwau)) في هذا المنصب، ليس استنادًا على الجدارة، ولكن استنادًا على نظام كينيا من الرِّشْوَة والمَحْسُوبِيَّة، وهذا ما يوضح النهج المُمزَّق غير المتماسك الذي سارت عليه اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACC) من البداية.([83])
ومع هذا، استطاع “جون هارون” إحضار مسئولين كبار إلى المحكمة بتهمة الفَسَاد. ففي عام 1998م، تم اتهام مسئولين في وزارة المالية بالفَسَاد، وتورَّط وزير المالية الأسبق “سيمون نياتشاى” (Simeon Nyachae) نفسُه لاحقاً، ولكن، على الرغم من ذلك، قال النائب العام إن الهيئة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACA) قد ذهَبَتْ للمحكمة دون الحصول على إذن النائب العام، كما ينص الدستور، وقام النائب العام بإغلاق القضية، وكانت الأسباب غير مقنعة، حيث كانت الجرائم المتهم بها وزير المالية ومسئولون حكوميون آخرون تتعلق بواردات مزوَّرة، وهى جرائم احتيالية لا تتطلب موافقة النائب العام من عدمها.([84])
ويُلاحَظ أيضًا على النائب العام من خلال التهم المبنية في الدعاوى المتعلقة بقضية “جولندبرج”، أن معظمها متشابهٌ من عدة نواحٍ؛ حيث تتعلق بنفس الجرائم ونفس الأشخاص المتهمين، وليس واضحاً السبب وراء تحريك مكتب النائب العام عدة دعاوى ضد نفس الأشخاص المتهمين، والتي تُسبِّب حالة من الفوضى، وتؤدِّي إلى تأخير المحاكمات، “وبهذا السيناريو، لا يبدو مفاجئاً ملاحظة أنه على الرغم من أن النائب العام باشر التحقيقات في الدعاوى المتعلقة بـ”جولندبرج” عام 1994م، إلا أنه حتى عام 1998م لم تُباشَر الجلسات إلا في دعوى واحدة، كما لاحظنا عَمْدًا عدم مُباشَرة الدعاوى الأخرى”.([85])
بحلول سبتمبر 1999م، كانت لا تزال هذه الدعاوى معلَّقة وتمت مباشرة جزءٍ واحد منها من قِبَل السيدة ” كيديولا باميلا يونايتا ” Unita) Pamela (Kidula، رئيسة القضاة، وكان السيد “برنارد شونجا” Chunga) (Bernard مدير النيابة العامة، وباشر بنفسه تحقيقات دعاوى “جولدنبرج”، بما في ذلك الجزء الذي تمت مباشرته.([86])
وكان من المُفترَض أن يتَّخذَ الإجراءات المتعلقة بتوجيه التهم، والإشراف على قرارات سحب ودمج وتوجيه تهم متنوعة في مراحل مختلفة، كما كان مسئولاً عن سير المحاكمات أيضاً. وفي هذا الصدد، أدلت السيدة “مواتيلا” بشهادتها “بأن السيد “شونجا” بلغ حد التوجيه والإملاء بما يجب وما لا يجب كتابته في بيانها”. فبحسب أقوالها أنه أبلغها “بألا تذكر أسماء السيد “كانيوتو” أو السيد “باتنى”. وهذا يوضح مشاركته الكاملة في التفاصيل الدقيقة للتحقيقات، وأنه اشترك في محاكمات انتقائية، كما يمكن أن توحي أيضاً بسوء السلوك المهني وإساءة استخدام السُّلْطَة.([87])
وبعد ذلك، عَيَّن الرئيس “موي” السيد “شونجا” في منصب رئيس المحكمة العليا والسيدة “كيديولا” في منصب رئيس النيابة العامة خلَفاً للسيد “شونجا”. وكان هذا تحولُّاً غريباً في الأدوار، وبالطبع كان من المتوقَّع أن تعرقل تعيينات الرئيس لهذه المناصب محاكمات جولدنبرج.([88])
ويمكن القول إن هذه التغييرات في المناصب العليا في الدولة من قِبَل الرئيس “موي” كانت سبباً في عرقلة محاكمات “جولدنبرج” ومُكافَحَة الفَسَاد بشكل عام في كينيا، حيث يتضح ذلك من خلال قرار المحكمة العليا، والتي كان يترأسها “شونجا”، والمتعلقة بحل أول هيئة لمُكافَحَة الفَسَاد في كينيا عام 2000م باعتبارها مخالفةً للدستور وانتهاكاً صريحاً لمبدأ الفصل بين السلطات، وبالتالي فهي غير دستورية، بحسب رأي المحكمة.
وفي انتخابات 2002م، فاز الرئيس “كيباكي” بولايته الأولى، ورفع الآمال لإنهاء الفَسَاد الأكبر والإفلات من العقاب، وأنشأت الحكومة عدة لجان للتحقيق في فضائح الفَسَاد في ظل النظام السابق، ومن بين هذه الفضائح فضيحة جولدنبرج. ومع ذلك، في ديسمبر 2003م، أعلنت الحكومة الجديدة أنها لن تحاكم الرئيس السابق “موي” لفساده المزعوم، وسريعاً ما اتُّهمِتْ حكومة 2002م هي الأخرى في فضائح فساد كبرى.([89])
اتُّهِمَ العديد من السياسيين داخل إدارة “موي” وإدارة “كيباكي” بالتورط المباشر في فضيحة “جولدنبرج”، وبالرغم من التحقيقيْن المختلفيْن اللَّذَيْن تم إجراؤهما برعاية الحكومة، لم تتم إدانة أي شخص([90])، إلا أن وزير المالية تخلَّى عن منصبه في فبراير 1993م، وذلك قبل أن تخرج الفضيحة إلى النور، ولكنه استمر كنائب رئيس كينيا خلال عام 1997م، ومرة أخرى في 1999-2002م. وعندما اندلعت الفضيحة في منتصف 1993م، استقال محافظ البنك المركزي وتلاه الأمين الدائم للخزانة في إبريل 1994.([91])
وبالفعل، تم استعادة ثُلُثي الأموال المفقودة، وأثناء إجراء السلطات عدة تحقيقات، لم تكن هناك محاكمات للمسئولين رفيعي المستوى المزعوم تورُّطهم في القضية، ولا تزال القضايا المرفوعة ضد المتورِّطين في قضية جولدنبرج مستمرةً في المحاكم.([92])
وتجدر الإشارة هنا، إلى أنه خلال جلسات استماع لجنة التحقيق في فضيحة جولدنبرج في 2003م، قال “باتني” وهو المتهم الأول في فضيحة “جولدنبرج” وصاحب الشركة إن الأموال التي تم الحصول عليها من خلال “جولدنبرج” قد تم استخدامها لتمويل انتخابات 1992م، وأوضح أنه قد أعطى تعليمات بشراء الطعام للناخبين والسيارات للمرشحين، كما طلب مفوضو المقاطعات الطعام بالأجل، وأرسلوا الفواتير إلى “باتني” للدفع. وقال “باتني” إنه وَزَّع أيضاً السيارات على السياسيين ذوي النفوذ، والذين كانت لديهم القدرة على كسب الأصوات في مناطقهم. وفي 2013م، برَّأت المحكمة العليا في كينيا “باتني” من جميع التهم الجنائية (التآمر للاحتيال على الحكومة).([93])
ثانيًا: فضيحة “الأنجلو– ليسنج” (Anglo-Leasing)
أصدر “جون جيثونجو”، والذي استقال عام 2005م من منصبه كمسئول عن مُكافَحَة الفَسَاد في كينيا، تقريرًا في شهر فبراير 2006م عن الفضائح التي كان يحقِّق فيها والتي أجبرت وزير المالية في كينيا على الاستقالة، كما هدَّدت بإسقاط غيره من كبار المسئولين. ويستند التقرير على سجلات مُفصَّلة احتفظ بها “جيثونجو” خلال التحقيق، وهو يوضح كيف استخدم مسئولو العقود الأمنية التي تبلغ قيمتها مليار دولار لسحب الأموال الحكومية إلى شركة غير موجودة.([94])
وقد تضمن فريق المسئولين الذين يُحتمل ضلوعهم في عمليات التزوير أو التغطية، حسب تقرير جيثونجو 2006، “ديفيد مويراريا” (David Mwiraria)- وزير المالية، و”كريس مورونغاور” (Chris Murungaru)- وزير الأمن السابق، و”مودى أوري” (Moody Awori)- نائب الرئيس، و”كيرايتو مورونجي” (Kiraitu Murungi)- وزير العدل، و”فرانسيس موتورا”
(Francis Muthaura)- رئيس الخِدْمَة العَامَّة، و”ديف موانغى” (Dave Mwangi)- السكرتير الدائم، كما شارك أيضًا في هذه الفضيحة رجال الأعمال الكينيون “أنورا بيريز” (Anura Peres) و”ديباك كامانى” (Deepak Kamani)، بالإضافة إلى شركات في إنجلترا وفرنسا وسويسرا، ومستشار أمريكى يُدعى “ميرلين كيترينج” (Merlyn Kettering).([95])
تضمَّنت فضيحة “أنجلو- ليسنج” 18 عقدًا أمنيًّا احتياليًّا أو مَعِيبًا، مع دفع ثمن البضائع التي كان مبالَغًا فيها أو لم يتم تسليمها، وبلغ مجموع العقود حوالي 750 مليون دولار، وتم الاتفاق عليها خلال الفترة 1997-2004م، حيث تم منح ستة عقود، تبلغ قيمتها أكثر من 300 مليون دولار، في ظل إدارة “كيباكي” في الفترة 2003-2004م، وتم تحديد المشكلة في أوائل 2004م من قِبَل موظفي الخدمة المدنية مُتوَسِّطِي المستوى. وقام بالتحقيق فيها كلٌّ من المراقب المالي، والمُراجِع العام، واللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACC)، ومكتب أخلاقيات الحَوْكَمَة (Office of Government Ethics (OGE)) والذي كان يرأسه السيد “جيثونجو”.([96])
ولم يَمْضِ وقتٌ طويل بعد تلقِّي المعلومات حول منح عقود لشركات وهمية بملايين الشلنات الكينية، حتى نَقَلَ السيد “جيثونجو” مخاوفَه لنائب رئيس كينيا “مودي آووري” ((Moody Awori، والذي نفى بدوره أيَّ علم بالموضوع، ولكنه وعَد بالنظر بجدية في هذه المسألة. وفى إبريل 2004م، سافر السيد “جيثوجنو” إلى المملكة المتحدة للتحقيق في شركة “أنجلو-ليسنج”((Anglo Leasing، ووجد أن هذا الكيان غيرُ موجود كما أنه لم يكن على الإطلاق في المملكة المتحدة. وبعد الحصول على المعلومات الجديدة، شرع السيد “جيثونجو” في إطلاع الرئيس “كيباكي” على التقدم بما في ذلك حقيقة كبار المسئولين في الحكومة، والذين ربما كانوا متورِّطين في القضية التي بدأت تفاصيلها تتكشف.([97])
وعلى الرغم من المعلومات التي قدَّمها “جيثونجو” حول التورط الوزاري، فإن التحقيقات الأولية للجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACC) حول “الأنجلو-ليسنج” قامت فقط بتسمية سبعةٍ من كبار المُوظَّفِين المدنيين والتوصية بمحاكمتهم في المحكمة من قِبَل المدعى العام. تم قبول التوصية لستة موظفين، بينما طُلبت الأدلة فيما يخص المتهم السابع، واعتبرت حكومة “كيباكي” المسألة منتهية بعد مرور الموجة.([98])
استقال بعد ذلك “جيثونجو” من منصبه كرئيس مكتب الأخلاقيات والحَوْكَمَة في كينيا عام 2005م؛ بسبب بطء التقدم في القضية، وبعض التهديدات التي كان يتعرض لها من قِبَل بعض الوزراء إنْ هو استمرَّ في طلب التحقيقات معهم في فضيحة “الأنجلو-ليسنج”. ([99])
وعندما ضرَبَتِ الموجة الثانية من مُكافَحَة الفَسَاد في يناير 2006م، عندما نُشِرَ تقرير “جيثونجو”، والذي يوثِّق تورُّطَ وزراء في “الأنجلو ليسنج” أعلن “رنجيرا”(*) أنه سيقوم بسؤال الوزراء حول اتهامات “جيثونجو”، وتم ذلك بالفعل في فبراير 2006م؛ حيث أوصت لجنة مُكافَحَة الفَسَاد الكينية (KACC) بتوجيه عدة تهم إلى “مويراريا” وزير المالية؛ منها جرائم اقتصادية، والإهمال في أداء الواجب، والعصيان في واجب قانوني، وتوجيه تهم الإهمال في أداء الواجب وإساءة استخدام السُّلْطَة لـ”مورونجي” وزير العدل، وذلك بعد تقديم استقالتهم من مناصبهم عَقِب الفضيحة.([100])
وفى أكتوبر 2006م، أعاد المدعى العام “واكو” (Wako) الملفات المتعلقة بالاتهامات والتحقيقات إلى اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACC)، طالبًا من اللجنة مزيداً من التحقيقات، ورافضاً محاكمة أي شخص بناء على الأدلة المقدَّمة. ومن الواضح أن اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد (KACC) قد فهمت الرسالة؛ حيث أصدرت تقريرها الشهري التالي حول الاتهامات الواردة في تقرير “جيثونجو” معلنةً أنها توصلت في الختام إلى أنه لا يوجد دليل قاطع على دعم هذه الاتهامات، وأوصت بإغلاق القضية ضد الوزراء السابقين. تم قبول التقرير الوارد من اللجنة الكينية لمُكافَحَة الفَسَاد من قِبَل المدعى العام “واكو”. وشَكَّك الكينيون في أن “واكو” قد عرقل عمل لجنة مُكافَحَة الفَسَاد أو أن اللجنة لم تقُم بعملها “وكلاهما احتمالان مثيران للشك”.([101])
وكما هو الحال في “جولدنبرج”، لم تتم مقاضاة المسئولين رفيعي المستوى، وتم اتهام ثلاثة من موظفي السكرتارية الدائمة السابقة وغيرهم بالتواطؤ في العقود المتعلقة بـ”الأنجلو ليسنج”.([102])
تبع ذلك سلسةٌ من إعادات التأهيل السياسية لمَن لم يتم الإشارة لهم من قِبَل لجنة مُكافَحَة الفَسَاد الكينية، ومِنْ ثَمَّ إعادتهم سريعاً إلى مناصبهم الوزارية، حيث تم إعادة “مويراريا” إلى المجلس الوزاري كوزير للبيئة والموارد الطبيعية، وظل “مورونجي” خارج مجلس الوزراء بعد أن ثبت أنه أقل ثقة، ولكنه كان المتحدث باسم “كيباكي” في حملة انتخابات 2007.([103])
لم يكن الرئيس “كيباكي” مرتبطًا بشكل مباشر بفضيحة “الأنجلو- ليسنج”، ومع ذلك أصبحت جهوده لمُكافَحَة الفَسَاد مَحَلَّ تساؤلٍ عندما فشل في إبعاد أعضاء حكومته الذين يُشتبه بتورطهم في الفضيحة من السُّلْطَة. وخلافًا لمبادئه التي أعلنها، بدا أن الملاحقات القضائية تتبع مسار الإدارة السابقة في فترة الرئيس “موي”، حيث كان هناك “فشل في التعامل مع الجريمة بواسطة أولئك الذين كانوا مُرتبِطين سياسيًّا بالماضي وصولاً إلى الحاضر، كما كان هناك قصور في وسائل التعامل مع الأقوياء حتى في الفَسَاد” والسيد “جيثونجو” الذي قام بكشف سجل هذه الفضائح في عهد “كيباكي”، قد قام بذلك وسط تهديدات لحياته؛ دفعت به إلى الاستقالة، ومِنْ ثَمَّ الفرار إلى المنفى في المملكة المتحدة. ([104])
وقد اعترَفَتْ أكبر وكالة لمُكافَحَة الفَسَاد في كينيا بأن التحقيقات في فضيحة “الأنجلو ليسنج” التي تُقدَّر بالمليارات قد انهارت، ويأتي ذلك بعد صدور حكم المحكمة العليا الذي يمنع لجنة مُكافَحَة الفَسَاد في كينيا من التحقيق في القضايا المتعلقة بالأمن.([105])
خاتمة
لقد ساعد الدستور الكيني على ممارسة الفساد، وذلك من خلال السلطات الواسعة التي منحها الدستور لرئيس الدولة، والتي جعلت منه شخصاً فوق القانون والمالك الرسمي لموارد الدولة الأساسية. وفيما يتعلق بجهود مكافحة الفساد في كينيا، يلاحظ أن غياب الأساس الدستوري للجان مكافحة الفساد في كينيا يترك شكوكاً بشأن صلاحياتها. كما أن تحكم القيادات السياسية والبرلمانات في تشكيل هذه اللجان وتحديد صلاحياتها يؤثر سلباً على عمل هذه اللجان.
إن القوانين التي أَنشأت لجان مكافحة الفساد في كينيا لم تُخَّّول سلطة الإدعاء العام لهذه اللجان، الأمر الذي يجعل هذه اللجان في نهاية الأمر فاشلة في التحقيق في قضايا الفساد، وستضطر هذه اللجان إلى إحالة قضايا الفساد إلى مكتب المدعي العام. و يثبت التاريخ الطويل في مكافحة الفساد تهرب المدعي العام في معظم القضايا المتعلقة بالفساد، خاصةً عندما يكون المتهمين من الشخصيات المسئولة في الحكومة، ومثال ذلك تهرب النائب العام وعرقلته لتحقيقات عمل لجان مكافحة الفساد في قضيتي جولدنبرج والأنجلو-ليسنج. كما أن عدم ديمومة رئيس الهيئة الخاصة بمكافحة الفساد في منصبه، والذي يتم تعيينه أوإقالته حسب رغبة القيادة السياسية والنخبة الحاكمة وبما يحقق مصالح هذه النخبة، قد أثر بشكل سلبي على جهود مكافحة الفساد في كينيا.
([1]) Mongoljingoo Damdinjav, Isabel Garcia, Emily Lawson, David Margolis, and Ben Nemeth, “Institutional Failure In Kenya And A Way Forward”, in Journal of Political Inquiry, (New York: New York University, Vol. 850, Spring , 2013), p.7.
([2]) حمدي عبد الرحمن، الفَسَاد السِّيَاسِي في أَفْرِيقيا، (القاهرة، دار القارئ العربي، ط1،1993)، ص 79.
([3]) Mongoljingoo Damdinjav, op. cit., p.3.
([5]) Migai Akech, Institutional Reform in the New Constitution of Kenya, (New York: International Center for Transitional Justice, October 2010), p. 18.
([6]) موناي م. مولينج، جون ن. ليستيدي، د. محمد عاشور، وأ. وسام إبراهيم (مترجمان)، الفَسَاد في أَفْرِيقيا جنوب الصحراء نحو اقترابٍ أكثرَ شُمُوليًّة، مختارات المجلة الأفريقية للعلوم السياسية، (القاهرة، برنامج الدراسات المصرية الأفريقية، 2003)، ص 86.
([7]) Letitia Lawson, “The Politics of Anti-Corruption Reform in Africa”, in The Journal of Modern African Studies, (Cambridge: Cambridge University Press, Vol. 47, No. 1, 2009), p.80.
([8]) هناء عبيد، الاتِّحَاد الأفْرِيقِي ومجابهة الفَسَاد: دراسة حالتي كينيا ونيجيريا، في:
http://acpss.ahram.org.eg/projectsRep.aspx?Report_ID=34
([9]) John Githongo, “Kenya’s Fight against Corruption: An Uneven Path to Political Accountability”, (Washington, D.C. : CATO Institute, Center for Global Liberty & Prosperity, Development Policy Briefing Paper No.2, March 15, 2007), p. 1.
(*) مؤلِّف فصل كينيا في تقرير الشفافية الدولية، والذي عُيِّن سكرتيرا لقطاع النـزاهة والحكم الرشيد، وتولَّى رئاسة مفوضية مُكافَحَة الفَسَاد 2003م.
([11]) هناء عبيد، مرجع سبق ذكره، ص 5.
([12]) حمدي عبد الرحمن، مرجع سبق ذكره، ص 90.
([14]) Lillian Cherotich, Corruption and Democracy in Kenya, (Oxford: Oxford University, Paper presented at Democratization Conference, 2009), p. 1.
([15]) Adams GR. Oloo, “Money and Politics: The Case of Party Nominations in Kenya“, (Nairobi: Centre for Governance and Development, Unpublished Manuscript, 2004), pp. 13-14.
([18]) Lillian Cherotich, op.cit., p.1.
([20]) NACP Secretariat, National Anti-Corruption Plan (Kenya): National Anti-Corruption Plan: Kenyans Arise! Fight Corruption Now, (Nairobi: NACP Secretariat, 5th July -14th September, 2005-2006), p.3.
([21]) Migai Akech, op. cit, p.3.
([22]) موناي م. مولينج، جون ن. ليسيتيدي، مرجع سبق ذكره، ص 85.
([23]) Smokin Charles Wanjala, “Fighting Corruption in Africa: Mission Impossible?”, (Laxenburg: International Anti-Corruption Academy (IACSA), International Anti-Corruption Summer Academy, Publication 2012), p.7.
([24]) موناي م. مولينج، مرجع سبق ذكره، ص 90.
([26]) Mongoljingoo Damdinjav, op. cit, p.9.
([27]) Mirugi-Mukundi Gladys, “The Impact of Corruption on Governance: An Appraisal of The Practice Of The Rule of Law In Kenya”, Masters of Law, (Pretoria: University of Pretoria, Faculty of Law, 27 October 2006), p.41.
([28]) Mongoljingoo Damdinjav, op. cit., p. 14.
([29]) Maira Martini, “Kenya: Overview of Corruption and Anti-Corruption”, (Bergen: Anti-Corruption Resource Centre, No.18, (348), October, 2012, p.6.
([30]) Mirugi-Mukundi Gladys Thitu, op. cit., p. 37.
([31]) John G. Ikubaje, “Democracy and Anti-Corruption Policies in Africa”, in The Ugandan Journal of Management And Public Policy Studies, (Kampala: Uganda Management Institute, vol. 6, 2005), p.51.
([32]) NACP Secretariat,, op.cit., p.8.
([34]) James T. Gathii, “Kenya’ s Long Anti-Corruption Agenda: 1952-2010: Prospects and Challenges of the Ethics and Anti-Corruption Commission Under the 2010 Constitution“, (Chicago:Loyola University, School of Law, Faculty Publications & Other Works, 4 L. & Dev. Rev. 182, Working Paper No. 35, Draft November 27, 2010), p.3.
([35]) United Nations and Economic Commission for Africa (UN&ECA), “Assessing the Efficiency and Impact of National Anti-Corruption”, (Addis Ababa: Governance and Public Administration Division, Economic Commission for Africa, December 2010), p. 39.
([36]) Smokin Charles Wanjala, op.cit., p. 8.
([37]) Mirugi-Mukundi Gladys Thitu, op. cit. , p. 20.
([38]) James T. Gathii, op. cit., p. 39.
([41]) Mirugi-Mukundi Gladys Thitu, op. cit., pp. 23-24.
([42]) Retreat for The AU Advisory Board On Corruption 10th – 14th October 2011, Draft Summary of Report, Mombassa, 2011, p. 39.
http://www.auanticorruption.org/resources/view/summary-of-report-retreat-for-the-au-advisory-board-on-corruption-2011
([43]) James T. Gathii, op. cit., p. 50.
([46]) Mirugi-Mukundi Gladys Thitu, op. cit., pp. 22-23.
([48]) Mirugi-Mukundi Gladys Thitu, op. cit. ,p. 25
([49]) Smokin Charles Wanjala, op.cit., p. 7.
([51]) NACP Secretariat, op.cit., p. 1.
([52]) Smokin Charles Wanjala, op.cit. , p.7.
([54]) Kenya – Anti-Corruption Commission, at:
http://www.kacc.go.ke/Docs/KACC_Annual_Report_2004-2005.pdf
([55]) Smokin Charles Wanjala, op.cit., p.8.
([56]) هناء عبيد، مرجع سبق ذكره، ص 5.
([58]) Letitia Lawson, op.cit., p.79.
([60]) Smokin Charles Wanjala, op.cit., p.8.
([61]) James T. Gathii, op.cit., p.59.
([62]) Smokin Charles Wanjala, op.cit., pp.8-9.
([63]) Maira Martini, op.cit., p.8.
([65]) Meron Tesfamichael, “Wiping The State Clean: The Dynamics of Diffusing Anti-Corruption Norms in Kenya“, PhD, (Ann Arbor, Michigan: ProQuest LLC, UMI 3625973, The New School, May 2014), p.118.
([66]) Tilla Sewe McAntony, “Public Sector Management Reforms in Africa: Analysis of Anticorruption Strategies in Kenya“, PhD, (Ann Arbor, Michigan: Proquest, UMI No. 3384577, Syracuse University, Social Science Doctoral Program in the Graduate School, 2009), p. 209.
([67]) Meron Tesfamichael, op.cit., p. 119.
([69]) Tilla Sewe McAntony, op.cit., p. 220.
([71]) James Thuo Gathii, op.cit., p.15.
([72]) International Monetary Fund, “Kenya: Ex Post Assessment of Longer-Term Program Engagement”, IMF Country Report No. 08/338, October 2008, p.8.
([73]) S.E.O Bosire, Kenya Judicial Commission of Inquiry into the Goldenberg Affair, “Report of the Judicial Commission of Inquiry into the Goldenberg Affair“, (Nairobi: Government Printer, 2005), p.197.
([76]) Tilla Sewe McAntony, op.cit., p. 222.
([80]) S.E.O. Bosire, op.cit., pp. 200-201.
([83]) James Thuo Gathii, op.cit., p. 17.
([85]) S. E. O. Bosire, op.cit., p. 279.
([89]) Maira Martini, op.cit., p.3
([90]) Meron Tesfamichael, op.cit., p. 120.
([91]) International Monetary Fund, op.cit., p. 8.
([93]) Meron Tesfamichael, op.cit., p. 120.
([94]) AfricaFocus Bulletin, Kenya: Githongo Report, February 26, 2006. Available at: http://www.africafocus.org/docs06/git0602.php.[
([96]) International Monetary Fund, op.cit., p.15.
([97]) David Wachira and Sudha Arlikatti, “Challenges of Effective E-governance: Problems of Transparency, Infrastructure, and Connectivity in Kenya”, in Christopher G. Reddick (eds.) Comparative E-Government, (New York: Springer, Chapter 13, Vol. 25 (259:273), 2010), p. 263.
([98]) Letitia Lawson, op.cit., p.81.
([99]) John Githongo, “Cover Letter Accompanying …, op.cit., p. 4..
(*) رئيس اللجنة الكينية لمكافحة الفساد (KACC) عام 2004.
([100]) Letitia Lawson, op.cit., pp.82-83.
([102]) International Monetary Fund, op.cit., p. 15.
([103]) Letitia Lawson, op.cit., p.82.
([104]) David Wachira and Sudha Arlikatti, op.cit., p. 264.
([105]) Lucas Barasa, “Ringera Admits Failure over Anglo Leasing”, in The East African News, Posted on Friday, February 6 2009 at:
http://www.theeastafrican.co.ke/news/-/2558/525600/-/rku6pkz/-/index.html