ثورة تونس في ذكراها العاشرة: جدل التقويم والإنجاز

بقلم/ بنعيسى الدمني

يفرض الدرس المستفاد من الثورة على التونسيين التعويل على المثابرة والأمل فضلًا عن مراجعة عقلانية للعشرية الأولى من مرحلة الانتقال الديمقراطي يتضح بها حجم وقيمة الإنجازات التي حققوها إلى حدِّ الآن، ونوع العوائق التي ما زالت تفصلهم عن استكمال مشروعهم الوطني بكل أبعاده.
ظلت النخب التونسية ودوائر البحث في العالم تتساءل، على امتداد عقد مضى، حول طبيعة ما حدث في تونس واضطر رأسَ نظام “السابع من نوفمبر”، في 14 يناير/كانون الثاني 2011، للرحيل لِواذًا إلى خارج حدود الوطن، هربًا من غضبة شعبه الهادر، تاركًا بلده للعراء دون تسليم مقاليد السلطة لأحد؛ وهو الذي كان يحب أن يصفه الناس بـ”حامي الحمى والدين”: هل كانت تلك “ثورةً شعبية”، أم “انتفاضةَ جياع”، أم “عمليةً جراحية” دبرتها الدولة العميقة بتنسيق مع داعميها الدوليين، للتخلص من أسوأ ما فيها وإعادة تشكيل ذاتها وفق شروط استمرار جديدة؟ وظل كثير من المتابعين يرقبون وقائع مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تبعت الثورة، عسى أن تسعفهم تطوراتها المتعاقبة بما يوفر لهم إجابات على تلكم التساؤلات فيرجِّحوا هذا الرأي أو ذاك.
لا شك في أن الانشغال بهذا النوع من الجدل، في السنوات الأولى من عمر الثورة، كان له ما يبرره من المنظور البحثي النظري (التاريخي والسوسيولوجي أساسًا)، وكذا من منظور حاجة الفاعلين السياسيين الاستراتيجية، في تونس تحديدًا، إلى التسلح بفهمٍ صحيح لسيرورة الثورة، وخصوصياتها، والميكانيزمات المجتمعية العميقة التي أسهمت في تخليق قواها وصياغة مطالبها البليغة الموجزة؛ حتى يكون سلوكهم السياسي منسجمًا معها. أما اليوم، فإن سؤال تقييم الثورة تداخل مع سؤال إنجازها التنموي الذي طالما كان محط آمال شعبية عريضة.
فما أهم القضايا والرهانات التي تناولها الجدل حول تقيم الثورة؟ وهل حالف التوفيق عموم الفاعلين المحليين في تمثل القيم الثورية والاستجابة لمطالب الشعب؟ وكيف تبدو ملامح تونس المستقبل في ظل وضع داخلي يتسم بالتوتر السياسي، والانكماش الاقتصادي؟
في قضايا التقييم ومنهجه
رغم حضور أطروحة المؤامرة في خضم الجدل الذي لم يتوقف حول الحراك الذي أدى إلى تغيير نوعي في النظام السياسي، إلا أن تلك الأطروحة لم تكن هي الغالبة. فما كان لشعبٍ كابدَ ديكتاتورية ابن علي وخرج عن بكرة أبيه للمطالبة بإسقاط نظامه، أن يصدِّق ادعاءً بأن ما أنجزه عبر حراك ميداني مرير كان نتيجة تخطيط خفي دبرته “الدولة العميقة” بمعية بعض الدوائر الدولية. في المقابل، ذهب كثيرون إلى التشكيك في أن ذلك الحراك وما انجرَّ عنه يشكِّل ثورة كاملة الأوصاف، وأصرُّوا على اعتبار أن ما حدث لا يعدو أن يكون “هبَّة ظرفية” أو “انتفاضة بلا أفق”؛ نظرًا إلى عدم استناد جموع المنتفضين في الشوارع إلى “نظرية ثورية” وعدم انضباطهم لِـ”قيادة” أو لِـ”منوال ثوري” محدد. وقد دعم أصحاب هذا الرأي وجهة نظرهم بما كشفته الأيام من أوجه قصور الحكومات التي تعاقبت بعد الثورة، عن محاسبة القديم، والتخلص من كل مخلفات النظام السابق، وتحقيق كل مطالب الشعب.
لكن التأمل الرصين في حصيلة وقائع التجربة الانتقالية التي تكرست في الأعوام العشرة الأخيرة بتونس كفيل، في نظرنا، بأن يساعد على تبني منهج موضوعي يقوم على تحري الوقائع وتنسيب الأحكام، بعيدًا عن نزعة الإطلاق في أي اتجاه من الاتجاهين، التشكيكي أو التقريظي.
إن ما تحقق في الحقبة المذكورة في مجال الحفاظ على كيان الدولة، وصياغة الدستور الجديد، وإعادة بناء مؤسسات الحكم بطريقة ديمقراطية، بالإضافة إلى المكاسب غير المسبوقة التي شهدتها تونس فيما يتعلق بالحريات، بما في ذلك حرية الإعلام؛ كل ذلك يشكل أدلة عينية قاطعة -رغم النقائص التي لا تُنكَر- على أن ما حدث في تونس كان، من حيث الجوهر، ثورة مدنية بروح كوبيرنيكية(1) ذات نتائج حاسمة. فهي قد جعلت السلطة تقف على قدميها بعد أن كانت، فيما مضى من عهدَي الاستقلال البورقيبي والذي تلاه، قائمة على رأسها، إذا جاز لنا أن نستخدم مفردات المعجم الماركسي في غير سياقها(2).
لمزيد التوضيح، يجدر التذكير بأن السلطة في تونس ظلت بِنيتُها في وضع مقلوب على امتداد ما يربو على نصف قرن من زمن الاستقلال؛ لأن الشرعية في تلك المرحلة ظلت تزداد ارتكازًا على القيادة على حساب القاعدة، يومًا بعد يوم، وهو ما جعل الانتخابات تتحول إلى رهانات شكلانية غايتها الامتثال لنصوص الدستور صوريًّا، وتجميل صورة نظام الحكم لدى الرأي العام الداخلي والخارجي، بتكلفة مالية ولوجستية ظلت ترهق كاهل الدولة باستمرار.
كان ذلك الوضع غير السوي (أي تأسيس الشرعية على الزعامة) هو السبب الأساسي الذي جعل السلطة عصية على أي إصلاح من داخلها يلمُّ شمل أبنائها ويُدخِلهم في شراكة ديمقراطية مع كل أبناء الوطن الواحد، ويعيد لها استواءها، ويسعفها بمشروعية كانت افتقدتها مبكرًا. وقد نال دعاةَ الإصلاح -الاشتراكيين(3) ثم الديمقراطيين(4) على حدٍّ سواء- صُلْبَ أجهزة الحكم، ما نالهم من استبعاد حزبي وملاحقات أمنية ومحاكمات قضائية زجَّت بهم في السجون. وهو ما أسهم في تأجيج محاولات التغيير من خارج السلطة نظرًا إلى كثرة وجود الطالب، بالمعنى الخلدوني للكلمة، بصرف النظر عن اختلاف المنطلقات والمناهج الفكرية والسياسية التي كانت قد اعتُمِدت في الطلب من قِبل حركات المعارضة(5). لكن تلك المحاولات باءت كلها بالإخفاق أيضًا تحت وطأة الأحكام القضائية القاسية التي ظلت تصدر في حق المعارضين من غير انقطاع منذ ستينات القرن الماضي، وشراسة القمع والتعذيب الذي مورس ضدهم وانتهى في عدة حالات إلى عمليات قتل خارج نطاق القانون.
في ظل تلك الحقبة التسلطية الطويلة وما شهدته من تخبط تنموي وأزمات اجتماعية دموية أحيانًا(6)، كان بناء دولة الاستقلال، وهندسة مؤسساتها، وسَنُّ تشريعاتها، وتحديد السياسات التي انتهجتها في كل مراحلها، وترتيب “مخرجات الانتخابات” التي انتحلتها في انضباط زمني مضلل.. كان كل ذلك معبِّرًا، بالدرجة الأولى، عن إرادة سلطوية ارتبطت بالحزب الواحد وبالقائد الواحد الموغل في نرجسيته واغترابه، والمصرُّ على انحيازه الطبقي والجهوي المجحف وعلى استهانته بالحريات والديمقراطية.
وكان طبيعيًّا أن يفضي ذلك التفرد بالسلطة ومنع التعددية الحزبية إلى تقلبات في السياسات التنموية، تبعًا لمزاجية الفرد، وأزمات تسببت في بروز فوارق فادحة بين الطبقات الاجتماعية وكذا بين الجهات، خصوصًا بعد تبني الدولة خيار الليبرالية الاقتصادية في مطلع العقد السابع من القرن الماضي على إثر تخليها عن تجربة التعاضد الاشتراكية التي قادها الوزير، أحمد بن صالح، وانتهاج حكومة الهادي نويرة، في تلك المرحلة، سياسة رأسمالية مفتوحة على السوق الأوروبية (بمقتضى قانون 1972 التعاقدي). إلى ذلك، رضخت حكومة ِرشيد صفر في أواسط الثمانينات لتوصيات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي التي تعلقت بإعادة هيكلة اقتصاد البلاد وفق نظام الخصخصة ما ضخَّم حجم البطالة. فكانت النتيجة أنْ وقعَ الدفع بأعداد إضافية من الشباب وحاملي الشهادات العلمية ِإلى هامش الدورة الاقتصادية، وازدادت الجهات الجنوبية وغير الساحلية فقرًا وحرمانًا؛ فارتسم بذلك مشروع حاضنة شبابية وشعبية لثورة لاحقة.
ولم يؤدِّ الانقلاب الذي دبرته جماعة ابن علي ضد الرئيس بورقيبة، في 1987، إلى أي تغيير نوعي على هذين الصعيدين، السياسي والاجتماعي؛ بل ازدادت الأَنَا المنتصبة على كرسي الرئاسة تضخمًا وشمولية (totalitarism) رغم ضآلة القيمة الشخصية للرئيس المنقلِب بالمقارَنة مع الرئيس المنقلَب عليه. واتسعت الفوارق الطبقية والجهوية، وازداد الأمر تفاقمًا بإطلاق أيادي أولي القربي والمصاهرة في المال الخاص والعام. ونشأ بذلك تراكب وظيفي غاشم بين الفساد والاستبداد؛ ما كشف للعالم واحدة من أكثر صور الطغيان المعاصر بشاعة، وحفز التونسيين، في المقابل، على خوض ثورة مدنية لم تفلح محاولات ابن علي في دفع قوات الجيش الوطني في قمعها. فنجحت في خلعه وإعادة استواء هرم السلطة على قاعدته الشعبية التي هي أصل السيادة، بعد أن كانت قمته هي القاعدة والأصل.
السؤال الذي ينبغي أن يُطرَح في هذا السياق، هو: لماذا انفردت ثورة تونس بالنجاح في تحقيق تغيير ديمقراطي، بينما أخفقت بقية الثورات العربية الأربع التي حذت حذوها، في الوصول إلى ذات النتيجة؟
أثر حركة الإصلاح
من المؤكد أن وراء ذلك التفرد أكثر من عامل. فبالإضافة إلى الخصوصيات الاجتماعية والسياسية التي ميزت تونس المعاصرة، وأبرزها في نظرنا ثلاثة: انتشار التعليم، وحرية المرأة، وحِرفية الجيش الوطني الذي لم يسبق أن انخرط في إدارة مباشرة للشأن السياسي، ثمة ضرورة إلى إلقاء الضوء على عامل أعمق وأسبق تاريخيًّا. يتعلق ذلك بالأثر الفكري لحركة الإصلاح التي شهدتها تونس في القرن التاسع عشر، والتي نذكر من أبرز روادها الوزير خير الدين التونسي (1820-1890) صاحب كتاب “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”، وأحمد بن أبي الضياف (1803-1874) صاحب مؤلف “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان”. فبفضل هذين العلَمين وغيرهما من رجال العلم والسياسة، شهدت تونس جملة إصلاحات مبكرة، منها: إلغاء الرق (سنة 1846 أي قبل إلغائه بالولايات المتحدة الأميركية بتسعة عشر عامًا)، وإصدار “عهد الأمان” (1857)، وسَنُّ أول دستور للدولة (1861) على قاعدة “تقييد السلطة بالقانون”، في عهد محمد الصادق باي (1813-1882).
هذا الرصيد القيمي والإصلاحي استمر تأثيره العميق في ثقافة التونسيين المعاصرة بمفعول مناهج التربية والتعليم في عهد جامعة الزيتونة وما بعده. وأتاح لتونس بالتالي أن تصنع ثورتها وفق معايير مدنية وديمقراطية متفردة كفلت بقاءها. وقد تجسد ذلك التفرد عمليًّا فيما أظهرته الجماهير التي اكتسحت الشوارع منذ 17 ديسمبر/كانون الثاني 2010، من استمساك صارم بأسلوب الاحتجاج السلمي بصدور عارية، رغم الاستفزازات ورصاص الشرطة. إلى ذلك، لم يتردد الشعب الثائر، فور سقوط رأس السلطة، في تسليم مهام الحفاظ على الدولة وإعادة بناء مؤسساتها إلى رجالِ سياسةٍ لم يكن أغلبهم من الثوار. ولم تساور الشعبَ أيَّة خشية من استئمان الحيش الوطني على حماية المرحلة الانتقالية. وهذا تعبير واضح عن رسوخ القيم المدنية في ثقافة التونسيين، وعن تشبع جمعيٍّ بمفهوم الدولة وثقة كبرى في أهلية أجهزتها الأساسية.
على أن هذا الرصيد الإصلاحي الموروث يبقى في حاجة ملحَّة إلى عملية تحيينٍ تُجدد فاعليته وتؤهله لأن يشكل أرضية ثقافية صالحة لتسييج الثورة بمفاهيم فكرية معاصرة تحميها من أي تحريف قد يتهددها في المستقبل. لكن هذا العمل الإبداعي الثقافي الذي يشكل روح الفعل السياسي وشرطَ نجاحه في إحداث تغيير عميق ودائم، لم يُبذَل فيه الجهد الكافي عمليًّا طوال العشرية الأولى من الانتقال الديمقراطي؛ رغم أن الحاجة إليه ليست تونسية وحسب. إنها حاجة كونية لم تنقطع الوقائع الراهنة عن تأكيدها. فبالتأمل، مثلًا، فيما وقع بأميركا مؤخرًا حين أقدم أنصار الرئيس ترامب، المهزوم انتخابيًّا، على مهاجمة مبنى الكابيتول مقر الكونغرس، في محاولة منهم لتعطيل انتقال السلطة إلى الرئيس الفائز دستوريًّا، ندرك الأهمية الكونية لدرس الإنجاز الثوري التونسي فيما يتعلق خاصة بطريقة الانتقال السلمي للسلطة.
إن الوقائع لا تفتأ تؤكد، فعلًا، أن الشأن السياسي في بلاد الغرب الأعرق في الديمقراطية -ناهيك عن البلدان النامية- يشهد اليوم إخلالات تتعدى المستوى الإجرائي وتهدد فكرة الديمقراطية ذاتها وتفضح حدودها. وإن قصور مناهج التعليم عن تربية الأجيال الراهنة على القيم المجتمعية السامية، أدى شيئًا فشيئًا إلى فقدان الديمقراطية لمضمونها القيمي والثقافي، وتحولها تدريجيًّا إلى آليات انتخابية تكاد تكون تقنية، يتحكم فيها رأس المال، وتُتَّخَذ سبيلًا لاختراق كيان الدولة ومؤسساتها الحساسة من قِبل رجال ونساء يحملون نقيض المبادئ الأصلية التي تأسست عليها فكرة الديمقراطية كالحرية، والكرامة، والمساواة الإنسانية، والمواطنة، والأخوة. من ثم، صار لكثير من التيارات الشعبوية والعنصرية المعادية للأجانب -أو ما يسمى حركاتِ وأحزابِ “أقصى اليمين”- مواقعُ قدمٍ راسخة في أعلى مواقع السلطة وأسمى الاستشاريات الغربية.
يقع ذلك اليوم في ظل واقع استهلاكي سلعي تنتصر فيه قيم المتعة، والمصلحة، والقوة، على غيرها من القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية السامية، ويتضاءل فيه مَعين التجديد الثقافي على نحو كادت أفكار عصر التنوير (القرن 18) أن تتحول معه إلى مرويات تراثية مفوَّتة (anachronistic)، خاصة في أذهان الشباب.
هذه المعطيات تطرح على تونس الثورة مسؤوليات تتجاوز استحقاقاتها المحلية. فهي بحكم ما تمتلكه مبدئيًّا من رصيد رمزي/ثقافي وسياسي مهم، قادرة على أن تقدم إسهامًا كونيًّا مفيدًا في المساعدة على تجديد فكرة الديمقراطية على قاعدة إنسانية ذات مضمون تَعارُفي. على أن تحقيق ذلك يبقى رهين النجاح في إنجازٍ تنموي لم يحصل بعد.
سؤال الحصائل التنموية
عند طرح مسألة تقويم الحصائل التنموية لزمن الثورة في تونس، لا نرى وجاهة في اعتماد طريقة الجرد الإحصائي والنظر إلى الموضوع بمنطق الموازنة بين المكاسب والخسائر. فتلك طريقة قد تصلح للدراسات التنموية الاقتصادية العادية التي تغلب عليها الصبغة الكمية، أكثر من صلاحيتها للنظر في المجال السياسي والحضاري الذي يقتضي إيلاء اعتبار أكبر للأبعاد الكيفية الكامنة في كل ظاهرة من هذا القبيل، وهي أبعاد جوهرية تتعلق بالقيمة والمعنى والفاعلية أكثر من تعلقها بحصائلَ من جنس الأعراض.
من ثم، يمكن القول مبدئيًّا: إن أهم مكسب “غنمته” تونس من ثورتها، على الإطلاق، هو ما يتعلق بالمفتاح الأهم الضامن لتحقيق التغيير والتنمية المستدامة؛ أعني: رد الاعتبار للإرادة الشعبية من حيث كونها قيمة مطلقة ذات وظيفة فعلية لا غنى عنها في بناء أية سلطة شرعية مؤهلة للبناء التنموي.
إن تحقق هذا المبدأ في الواقع التونسي هو، في الحقيقة، أكبر من أن يوصف بكونه محض “غُنم” بما يحيل إليه هذا الوصف من دلالات حسية مقلِّصة للمعنى. فقد تعلق الأمر، في الواقع، بتكريس مبدأ ثقافي وسياسي أساسٍ لأي اجتماع مدني قابل للبقاء. وإذن فلا معنى لتعمد بعض النخب التونسية المطالبة باعتماد “شرعية الإنجاز” بديلًا عن الشرعية الانتخابية، في محاولة منهم لتبييض تجارب الاستبداد السياسي القديمة التي تخللها بعض ازدهار حضاري؛ كما لو أن الذين حكموا تونس بالعصا الغليظة، في حقبة ما قبل الثورة، قد حققوا من الإنجازات ما جعل بلادهم ترقى إلى مصاف البلدان المتقدمة ناهيك عمن ذهب إلى أبعد من ذلك، فراح بمناسبة كل أزمة طارئة يروِّج لخطاب انقلابي صريح.
الذريعة التي اتكأ عليها أكثر هؤلاء هي إخفاق الحكومات، على امتداد العقد المنقضي في تحقيق كل أهداف الثورة خصوصا في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وهذا قولُ حقٍّ قد يراد به باطل؛ إذ ليس في وسع أحد أن ينكر أن تشكيلات الحكم المتعاقبة أخفقت في تحقيق أهداف التنمية المنشودة، والتشغيل، والقضاء على التفاوت الجهوي، واستئصال الفساد، وحسن إدارة ملف الأملاك المصادَرة، واستعادة الأموال المنهوبة التي هرَّبها ابن علي وأتباعه إلى الخارج والتي تجاوز حجمها ضعف حجم ميزانية الدولة حاليًّا(7). يضاف إلى ذلك ملف العدالة الانتقالية الذي ظل مثله كمثل الجرح المفتوح بعد انقضاء الآجال المقررة لمعالجته دون نتائج مُرضية. ولا ينبغي أن نغفل كذلك عجز الحكومات التي تعاقبت بعد الثورة عن فتح ملفات الإصلاح الكبرى في مجالات حيوية مثل التربية والتعليم، والصحة، والنقل، والجباية، والزراعة، وغيرها.
مؤدَّى هذا أن الإنجاز التنموي الاقتصادي والاجتماعي للثورة ظل، بلا أدنى شك، دون إنجازها السياسي حجمًا وقيمة. غير أن توظيف الحصائل السلبية لسياسات التنمية في مرحلة الانتقال الديمقراطي في سياق معاداة الثورة والدعوة إلى الانقلاب على مبادئها ومفاعيلها، يستدعي الملاحظات التالية:
أولًا: منطقيًّا، ليس ثمة علاقة سببية لازمة بين ضعف الإنجاز التنموي ومبدأ الثورة ذاته. إنما يتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية وحتى القانونية عن ذلك الضعف كل التنظيمات الحزبية والمدنية والجماعات والأفراد الذين شاركوا في إدارة الشأن العام في تونس بعد الثورة، دون أن يأخذوا بالأسباب الضامنة للنجاح، وهم كُثرٌ ومن أطياف متباينة. وإذا كانت صناديق الاقتراع ستحاسبهم على ذلك في مواعيد انتخابية مقبلة بكل تأكيد، كما سبق أن حاسبت بعضَهم من قبلُ في انتخابات 2014 (أحزاب ائتلاف “الترويكا”) و2019 (حزب “نداء تونس”). لا وجاهة إذن فيما يلجأ إليه أنصار النظام القديم وبعض مَن لم تسعفهم الانتخابات بالوصول إلى السلطة، مِن تذرعٍ بسوء الأداء التنموي لمعاداة الثورة. الأَوْلى أن ينتظروا مواعيد الاقتراع ليختاروا مرشحين أقدر على تولي المسؤوليات الحكومية، إن وُجدوا.
ثانيًا: إن تفسير سوء الأداء التنموي بعامل واحد يتعلق حصرًا بضعف كفاءة مَن تبوأ مسؤولية الحكم، دون الإشارة إلى ما عمدت إليه عدة جهات إعلامية ونقابية وسياسية في العشرية المنقضية من افتعال عوامل التثبيط المعنوي وتعطيل دواليب الإنتاج، يُعَد من قبيل الإجحاف في التقويم والإعراض عن محاسبة كل من أخطأ في حق الثورة والشعب.
ثالثًا: إن الواقعية تقتضي عدم مطالبة ثورة حديثة العهد وديمقراطية ناشئة بتحقيق استقرار سياسي كامل وإقلاع اقتصادي نوعي في ظرف عقد من الزمن. فقد أفادنا التاريخ الحديث والمعاصر بأن أغلب الثورات كانت مشفوعة بأحوال من الفوضى استمرت عقودًا، وبأزمات اقتصادية وصلت حدَّ المجاعات، نتيجة لتعطل أجهزة السلطة ولتفككها أحيانًا، وارتخاء قبضتها المركزية، وارتباك عمليات الإنتاج وتوزيع السلع. واحتاج التغلب على تلك الأزمات الوجودية، التي أوقعت بعض الثورات في فتنة “أكْل أبنائها”، إلى سنين وأحيانًا عقود طويلة من الكدح والمثابرة.
خاتمة
إذا كان الدرس المستفاد من التاريخ يفرض على التونسيين، من الناحية المعنوية، أن يعوِّلوا على المثابرة وعدم انقطاع الأمل، فإنه يفرض عليهم أن يقوموا، عمليًّا، بمراجعة عقلانية للعشرية الأولى من مرحلة الانتقال الديمقراطي يتضح بها حجم وقيمة الإنجازات التي حققوها إلى حدِّ الآن، ونوع العوائق التي ما زالت تفصلهم عن استكمال مشروعهم الوطني بكل أبعاده. على أن المدخل إلى ذلك الاستكمال يكون بخطوات أولية مطلوبة، أهمها:
– رفع العراقيل القانونية والإجرائية التي عطَّلت إنشاء محكمة دستورية تكون مرجع النظر الوحيد فيما يتعلق بدستورية القوانين والقرارات.
– مراجعة القانون الانتخابي بما يضمن عدم تشتت المشهد السياسي الحاكم، وبما يكفل مزيدًا من الاستقرار الحكومي ومراكمة عمل التنمية.
– إدارة حوار وطني جامع ينتهي إلى ثلاثة مخرجات أساسية، هي:
1 ـ صياغة رؤية استشرافية عامة لمستقبل البلاد المنظور، تتضمن الخطوط العريضة للسياسات العامة والإصلاحات الكبرى التي ينبغي القيام بها.
2 ـ تفاهم بين مكونات المجتمعين المدني والسياسي على تسوية تاريخية تكفل معالجة الملفات المنجرَّة عن مخلفات الماضي، وتجاوزَ الخلافات المفتعَلة حول الانتماء والهوية، وحول صلاحيات المؤسسات السيادية بما يجنِّب المجتمعَ صراع التنافي ويضمن وحدة الدولة وفاعليتها واستمرارها.
3 ـ تعاقد على نهج تنموي اقتصادي واجتماعي عام غير مختلَفٍ بشأنه وطنيًّا.

مراجع
1 ـ نسبة إلى العالم البولوني الأصل، نيكولا كوبيرنيك (1473-1543)، الذي اشتُهر بثورته الفلكية المتمثلة في القول بدوران الأرض حول الشمس، بعكس ما كانت تدعيه الفيزياء القديمة من مركزية الأرض ودوران الشمس حولها. وتستعمَل عبارة “الثورة الكوبيرنيكية” خارج مجال علم الفلك للدلالة على جذرية انقلاب المواقف أو الأوضاع عامة.
2 ـ كان كارل ماركس (1818-1883) استعمل هذا التشبيه لبيان اختلاف فلسفته المادية جذريًّا عن فلسفة هيغل (1770-1831) المثالية، رغم اعتماد الأول ذات المنهج الجدلي التي وضعه الثاني.
3 ـ شهدت سنة 1969 محاكمة الوزير الأسبق، أحمد بن صالح، وعدد من المسؤولين في الدولة، على إثر إفشال تجربة “التعاضد” الاشتراكية. انتهت المحاكمة إلى الزج به وبآخرين في السجن، فاضطر إلى تدبير عملية فرار خطيرة بمساعدة بعض أقاربه وأتباعه، وآلت به المغامرة إلى الاستقرار لاجئًا في أوروبا لعدة سنوات.
4 ـ على إثر مطالبة جماعة الوزير الأسبق، أحمد المستيري، بإقرار الديمقراطية، وقع طرده بمعية 12 قياديًّا من الحزب الحاكم آنذاك: “الحزب الاشتراكي الدستوري”، في سنة 1974. وكان الرئيس بورقيبة قبل ذلك قد أقال الوزير الأول، الباهي الأدغم (رئيس الحكومة)، واستبعده من العمل السياسي بشكل كامل، واضطره إلى قضاء بقية حياته مغضوبًا عليه وفي وضع مادي هش.
5 ـ انتمت حركات المعارضة السياسية منذ الستينات إلى عدة تيارات، منها: القومي العروبي (أتباع صالح بن يوسف، “الاتحاد الديمقراطي الوحدوي”..)، واليساري الماركسي (“الحزب الشيوعي”، حركة “آفاق”..)، والإصلاحي الليبرالي (“حركة الديمقراطيين الاشتراكيين”..)، والإصلاحي الاشتراكي (“حزب الوحدة الشعبية”، “التجمع الاشتراكي التقدمي”..) والإسلامي (“حركة النهضة”، “حزب التحرير”..). وكانت تعتمد على مناهج ووسائل عمل مختلفة تراوحت بين السرية والعلنية، والسلمية والعنف.
6 ـ من الأزمات الاجتماعية التي انتهت إلى مآلات دموية نذكر: فشل تجربة التعاضد في 1969، والصدام مع النقابة العمالية في 1978، وانتفاضة الخبز في 1984، وانتفاضة الحوض المنجمي في 2008.
7 ـ انظر مقالنا: “تحقيق المصالحة والحرب على الفساد: معادلة تونس الصعبة” في الرابط التالي، موقع مركز الجزيرة للدراسات بتاريخ 15 مايو 2019، (تاريخ الدخول: 14 يناير/كانون الثاني 2021):
https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2019/05/190515093907964.html

المصدر: الجزيرة

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *