ركائز “السياسات اللغوية الراهنة” داخل بلدان القارة الإفريقية

بقلم/ محمد غاليم
جامعة محمد الخامس، معهد الدراسات والأبحاث للتعريب
ليس من الصعب ملاحظة الوضع المتدني للغات الوطنية في البلدان الأفريقية، ومنها المغرب، والحيز الضيق المتاح لاستعمالها. وفي مقابل ذلك تستمر اللغات الأجنبية في فرض سيطرتها، ليس فقط من خلال وضعها اللغوي-الاجتماعي الرفيع، ولكن أيضا من خلال القطاعات الحيوية المتميزة التي تستعمل فيها.

ومن الوقائع اللافتة للنظر والمعبرة عن هذا الوضع، أن السياسات اللغوية في أربع وثلاثين (34) دولة أفريقية، من أربع وخمسين (54) (إذا استثنينا دولة جديدة هي السودان الجنوبي)، بقيت كما كانت إبان الحصول على الاستقلال السياسي في أوائل الستينيات، أي محافظة، على العموم، على الإرث الاستعماري كما هو.

وتدل الإحصاءات الخاصة باللغات الرسمية في أفريقيا على هذا الوضع المميَّز بسيطرة لغات القوى الاستعمارية. فهناك عشر دول (10) أفريقية فقط، من بين ثلاث وخمسين (53) دولة، تعترف برسمية لغات أفريقية محلية، منها اللغة العربية في تسع دول؛ أما الدول الست والأربعون الباقية فتعتمد رسمية لغات أجنبية هي لغات مستعمر الأمس؛ وتتوزع كالتالي: الفرنسية في واحد وعشرين (21) بلدا، والأنجليزية في تسعة عشر (19) بلدا، والبرتغالية في خمسة (5) بلدان، والإسبانية في بلد واحد.

ولقد اهتمت أدبيات السياسة اللغوية والتخطيط اللغوي في بلدان أفريقيا ما بعد الاستعمار، بمحاولة تفسير أسباب هذا الوضع المتمثل في استمرار السياسات اللغوية الاستعمارية التي تُمَكِّن للغات مستعمر الأمس في مجالات المجتمع الحيوية كالتربية والتعليم والإعلام والاقتصاد، الخ.، على حساب اللغات الأفريقية.

وتؤكد أعمال كثيرة، ضمنها أعمال نشرت في السنوات الأخيرة، وجود عاملين رئيسين هما: التعدد اللغوي والإرث الاستعماري. وعلى هذين العاملين تَبنِي أغلبُ الآراء أسبابَ استمرار السياسات اللغوية الاستعمارية الموروثة، في مجالات كالتربية والتعليم خاصة، في بلدان أفريقيا ما بعد الاستعمار.

ومن أبرز هذه الأسباب ثلاثة: أ) تجنب الصراعات اللغوية-الإثنية في سياسات التعدد اللغوي في أفريقيا، مادام اختيار لغة أفريقية واحدة أداة للتربية والتعليم يثير حفيظة الآخرين الذين تُهَمَّش لغاتهم. ب) تعزيز الوحدة الوطنية، لأن اللغة الاستعمارية محايدة إثنيا؛ بمعنى أنها لا تنتمي إلى أي مجموعة إثنية محلية مخصوصة، أو تفَضِّلُها على غيرها.

ومن ثمة فهي تُسَوِّي بين الجميع من الناحيتين الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية. ج) استعمال لغة التواصل الأوسع، وهي لغة مستعمر الأمس، من أجل التنمية الاقتصادية-الاجتماعية الوطنية، لأن اللغات الأفريقية، على ما يبدو، تفتقر إلى المستويات العليا من القدرة المعرفية والتبلور اللغوي التي تميز تلك اللغة.

ونتناول باختصار شديد هذه الأسباب المترابطة التي تُبنى على اعتبار التنوع اللغوي أو التعدد اللغوي مشكلا وعائقا أمام التنمية على حد سواء. ونبين أنها باطلة، والاعتبار الذي بُنيت عليه باطل، ويقوم على حجة واهية. فلا يفسر، مثلا، لماذا فشلت بلدان أفريقية أحادية اللغة في فرض لغتها، مثل لوسوتو وسوازيلاندة. كما لا يفسر لماذا تمكنت بلدان في جنوب آسيا وجنوبها الشرقي، مشابهة من حيث الخضوع للاستعمار والتعدد اللغوي، من العمل على حل قضاياها اللغوية بدرجة تخدم لغاتها الوطنية أكثر مما فعلته البلدان الأفريقية.

ونوضح، في مقابل ذلك، أن استمرار السياسات اللغوية الاستعمارية الموروثة، إنما ينتج عن عوامل من أبرزها، على الأقل، عاملان متداخلان، نشير إلى أثرهما في المحاولات، المحتشمة في الغالب، التي تعلن السعي إلى تمكين اللغات الوطنية باعتبارها أداة التربية والتعليم في المدارس الأفريقية. وهذان العاملان المتداخلان هما: أ) ظاهرة ذات أصول اقتصادية واجتماعية وسياسية هي ظاهرة انغلاق النخبة (elite closure). ب) التبعية الاقتصادية الأفريقية للدول الغربية، التي تشمل الدول الاستعمارية السابقة وغيرها من دول الغرب. ويضاف إلى هذين العاملين ما ينتج عنهما من نتائج أهمها المواقف السلبية من اللغات الوطنية الأفريقية وتغذية هذه المواقف، والقيمة المرتفعة للغة المستعمر في السوق، مقارنة بتدني قيمة اللغات الأفريقية.

1. عن حجة التعدد اللغوي

يزعم الكثير من الباحثين والمهتمين بالتخطيط اللغوي أن السياسات اللغوية المعنية بتمكين اللغات الأفريقية باعتبارها وسيط التربية والتعليم، قد فشلت فشلا ذريعا، بسبب وضع يرون فيه “مشكلا كبيرا”، هو هذا الوضع المتمثل في تعدد اللغات. فاعتبر هذا الوضع عجزا اجتماعيا يؤدي إلى التأخر الاجتماعي والاقتصادي؛ بينما اعتبرت الأحادية اللغوية، المعتمدة بصفة خاصة على لغة المستعمر السابق، مفتاح الازدهار والتطور الاقتصادي-الاجتماعي.

وغالبا ما تعتبر حجة التعدد اللغوي حجة مزدوجة. فهي تقوم، أولا، على أن هناك عددا كبيرا من اللغات، يرافقه، في نفس الوقت، نقص في الموارد والإمكانات، يجعل الحكومات عاجزة عن ضمان تعليم الأطفال وتربيتهم باللغات الخاصة بكل مجموعة منهم. وتقوم الحجة، ثانيا، على أن تمكين أي لغة محلية في الاستخدام الرسمي، يثير ردود أفعال مناهضة لدى نخب المجموعات اللغوية الأخرى.

وفي هذا السياق يتم الترويج لمجموعة من “الأساطير” التي تعبر عن هذه “الإيديولوجيات اللغوية”، والتي تهم لغة التربية والتعليم باعتبارها، عادة، الآلية الرئيسة، أو الوحيدة، لتحقيق السياسة اللغوية. ومن هذه “الأساطير”: ارتفاع تكلفة التربية والتعليم بلغات متعددة؛ وعجز اللغات المحلية عن التعبير عن التصورات الحديثة؛ وضرورة استعمال اللغات ذات القوة التواصلية الواسعة، أي لغات المستعمر السابق، لتطوير الاقتصاد وفرص الكسب؛ وضرورة استعمال هذه اللغات ذات القوة التواصلية الواسعة في التربية والتعليم للحد من “القبلية” وصراع المجموعات الإثنية.

هكذا تعتبر لغة مستعمر الأمس، ليس فقط الاختيارَ الآمن الضامن للوحدة السياسية، وإنما أيضا الوسيط “المحايد” الذي ليس ملكا لأي مجموعة لغوية-إثنية داخل المجال السياسي. وذلك في مقابل التعدد اللغوي الذي يعتبر، في هذا التصور، عائقا أمام سلامة المؤسسات وتهديدا للنسيج الاجتماعي.

وقد بدا أن السياسات اللغوية التي اتخذت إطارا لها هذا التصور الذي يعتبر التعدد الغوي مشكلا، قد سعت إلى التخلص من مصدر هذا المشكل؛ أي إلى القضاء على التعدد اللغوي وتعويضه بالأحادية اللغوية.

ومن الطرق التي اعتمدتها الدول الأفريقية في القضاء على التعدد اللغوي، إسناد وضع اللغة الوطنية أو الرسمية إلى لغة أو لغات محلية معينة، نظريا أو دستوريا؛ وفي نفس الوقت يتم العمل على إبعاد هذه اللغات عن الاستعمال في المجالات الرسمية العليا والحيوية كالتربية والتعليم والإدارة والسياسة والتشريع والاقتصاد. وهو ما يضمن بالطبع استمرار الآليات الاستعمارية وأولها اللغة في المجالات الحساسة في الدول الأفريقية، وعلى رأسها التربية والتعليم. ومن البديهي أن يساهم التمكين للغة المستعمر في بلورة مواقف سلبية لدى الناس تجاه استخدام اللغات المحلية في المجالات المذكورة.

وحتى إذا افترضنا إمكان اعتماد حجة التعدد اللغوي في دول مثل الكاميرون (حيث 250 لغة) وجمهورية الكونغو الديمقراطية (حيث 300 لغة) ونيجيريا (حيث 400 لغة)، فإنه يصعب، كما أشرنا آنفا، اعتمادها في بلدان أحادية اللغة، وتفسيرُ لماذا لم تتمكن مثل هذه البلدان، كاللوسوتو وسوازيدلاندة، أو رواندا وبوروندى، من استخدام لغتها المحلية وسيطا للتربية والتعليم. ففي كل هذه البلدان، نجد أن مجموع السكان يتكلمون لغة محلية مشتركة واحدة: سيسوتو في اللوسوتو (99,7%)، سيسواتي في سوازيدلاندة (100%)، كيروندي في بوروندي (100%)، كينيا رواندا في رواندا (100%). ومع ذلك تستمر هذه البلدان في استخدام لغة المستعمر وسيطا للتربية والتعليم: الفرنسية في بوروندي، والأنجليزية في اللوسوتو وسوازيلاندا ومؤخرا رواندا.

وعلاوة على ذلك، هناك بعض البلدان الأفريقية المتعددة لغويا التي تملك لغة محلية وطنية مشتركة يمكنها أن تصلح وسيطا للتربية والتعليم؛ منها السيتسوانا في بوتسوانا (95%)، والسانجو في جمهورية أفريقيا الوسطى (98%)، والسواحلي في تنزانيا (95%)، والأكّان في غانا (90%).

فلماذا لم تفلح سياسات هذه البلدان في تمكين اللغة الوطنية في التربية والتعليم؟

يبدو أن هناك عوامل تتفاعل بشكل معقد لعرقلة تمكين اللغات الوطنية في البلدان الأحادية اللغة مثل اللوسوتو وسوازيلاندا ورواندا وبوروندي؛ وكذلك في البلدان المتعددة لغويا التي تملك لغة وطنية مشتركة، مثل بوتسوانا وغانا وكينيا وفي بلدان أخرى. وهي بلدان تمثل حالتها حجةً تفند الزعم بأن التعدد اللغوي يعتبر مشكلا يعوق استعمال لغة مشتركة في التربية والتعليم.

فيظهر أن العائق لا علاقة له بالتعدد اللغوي، بل يعود إلى عوامل يمكن إدراج بعض أبرزها، كما سبقت الإشارة، تحت عنوانين كبيرين هما: عامل انغلاق النخبة، وعامل التبعية الاقتصادية الأفريقية “للمانحين” الغربيين؛ مع ما يرتبط بهذين العاملين من نتائج على رأسها: ارتفاع القيمة الاقتصادية –الاجتماعية للغات المستعمر في سوق العمل الرسمي، مقابل تدني القيمة النفعية للغات الأفريقية، أو انعدام هذه القيمة.

2. انغلاق النخبة

في بحثين شهيرين هما: “Elite closure as boundary maintenance” (1990) و “Elite closure as a powerful language strategy: the African case” (1993)، وفي أبحاث لاحقة، تحدِّد عالمة اللسانيات واللسانيات الاجتماعية كارول مايرس-سكوتن Scotton ظاهرة انغلاق النخبة باعتبارها استراتيجية يحافظ بها المالكون للسلطة على سلطاتهم وامتيازاتهم بواسطة الاختيارات اللغوية. فانغلاق النخبة “تاكتيك لحماية الحدود” يقوم على إضفاء الطابع المؤسَّسي على القوالب اللغوية للنخبة، سواء من خلال سياسة رسمية، أو من خلال تكريس معايير استعمال غير رسمية، بهدف حصر ولوج النشاط الاقتصادي- الاجتماعي والسلطة السياسية، في أولائك الذين يملكون القوالب اللغوية المطلوبة وإقصاء غيرهم.

لقد تبنت النخب التي أنتجها النظام التعليمي الاستعماري في أفريقيا اللغات الأجنبية على حساب لغاتها الأصلية؛ وجعلت من احتكار هذه اللغة الأجنبية أساسا، من بين أسس أخرى، لاحتكار السلطة. وكانت هذه الظاهرة القائمة على احتكار سلطة اللغة والعمل على حمايتها ومنع المجموعات الأخرى من الاشتراك فيها، من أسباب فشل محاولات تمكين اللغات الوطنية وتوسيع مجالات استعمالها. فانغلاق النخبة نخبويةٌ لغوية وإيديولوجيَا خفيةٌ تُشَرِّعُ استمرار وإعادة إنتاج لغة مهيمنة، بناء على الزعم بأن اللغات الوطنية المحلية ليست متطورة بما يكفي لاستعمالها في التربية والتعليم والاقتصاد وما يرتبط بذلك من مجالات حيوية.

إن الهدف من انغلاق النخبة أو النخبوية اللغوية الرسمية، هو المحافظة على الامتيازات التي ترتبط بها لغة النخبة المتمثلة في لغة مستعمر الأمس. فبالعمل على استمرار استخدام هذه اللغة الأجنبية، تعزل النخبة نفسَها مع لغتها المتميزة، عن بقية الناس ولغاتهم المحلية. وبذلك يصبح التعامل اللغوي لدى النخبة تعاملين: لغةُ النخبة (أي اللغة الأجنبية) للاتصال الداخلي، واللغة المحلية المشتركة للاتصال (الخارجي) بعامة الناس.

ولحماية الامتيازات التي ترتبط بها معرفة لغة السلطة، تسعى النخبة خِفْيةً إلى تقويض سياسات لغة التربية والتعليم، التي تقوم هي نفسُها بتصميمها لتمكين اللغة الوطنية المشتركة. ونجد أنفسنا أمام مشهد معتاد يُصوِّت فيه الأفراد لصالح تمكين اللغة الوطنية ويُعْلنون ذلك، لكنهم في حياتهم الشخصية يعملون على إبطال هذا التصويت، فيُلحِقون أبناءهم بالبعثات والمدارس التي تُعلِّم لغة مستعمِر الأمس.

ومما يورده عبد الله العروي (في كتابه: Le Maroc de Hassan II, un témoignage الصادر في 2005، صص. 78-79) عن سلوك النخبة الحاكمة في المغرب تجاه التعريب، أنها حرصت منذ 1960 على أن تكون وزارة التربية الوطنية تحت قيادة أشخاص مناهضين لبرنامج التعريب الذي كانت تقترحه الحركة الوطنية، أو أشخاص أقل تشددا في موقفهم المناهض ولكن يمكنها توجيههم إلى تأخير تطبيقه إلى أقصى حد ممكن. وكانت هذه النخبة، في نفس الوقت، تتخذ الترتيبات اللازمة حتى تظل المؤسسات التي تُكوِّن أطرَ الدولة بمنأى، في كل الأحوال، عن مجال تطبيق هذا البرنامج. فلم يكن من الوارد في أي وقت من الأوقات القيام بتعريب، ولو جزئي، لكلية العلوم أو للمدارس الكبرى التابعة للوزارات التقنية، أو إغلاق الشعبة الفرنسية في كلية الحقوق بالرباط.

هكذا تعمل النخبة، كما سبق الذكر، على تقويض سياسات تمكين اللغة الوطنية المشتركة، بإسناد وضع رسمي نظري لهذه اللغة، وفي نفس الوقت منعها ومنع المتكلمين بها من ولوج القطاعات الحيوية المفتوحة للمتكلمين باللغة الأجنبية، في التربية والتعليم (العالي خاصة)، والنشاط الاقتصادي- الاجتماعي والسياسي.

إن النخب تحارب نظامها التعليمي العام الذي وضعته بنفسها، فلا ترسل أبناءها إليه. إنها لا تطعم أبناءها من هذا الطبيخ الذي طبخته، لأنها تعرف أنه طبيخ مسموم. ولا يخفى أن إقصاء اللغات الوطنية من المجالات الحيوية كالتربية والتعليم والاقتصاد، يمارَس لحرمان أغلبية السكان من الحصول على فرص التنمية الاقتصادية-الاجتماعية، والاندماج الفاعل في الممارسة الديمقراطية، وولوج مصادر القرار.

وتجدر الإشارة إلى أن ما يثار بين الفينة والأخرى من نقاشات حول بعض قضايا السياسة اللغوية في البلدان الأفريقية وحصر الاهتمام في هذه القضايا، كاللغات الواجب اعتمادها في النظام التعليمي وربطها بمستويات تعليمية معينة الخ.، غالبا ما يكون مجرد وسيلة لصرف النظر عن المشكل الحقيقي وإدامة انغلاق النخبة والمحافظة على امتيازاتها.

إن الأمر لا يعدو كونَه حجابا أو غطاءً يُستخدَم لإدامة استعمال اللغة الأجنبية في القطاعات الحيوية والعليا من أجل الحفاظ على الامتيازات المرتبطة بهذه اللغة. وهذا يعني أن السياسة اللغوية التعليمية نفسَها مجرد وسيلة من الوسائل التي تُستخدَم لضمان استمرار انغلاق النخبة، وإيهام الرأي العام في البلاد بأن أسباب فشل النظام التعليمي تعود إلى قضايا متعلقة بهذه السياسة اللغوية. وبذلك يستمر الوضع الحقيقي المسؤول عن هذا الفشل على حاله، ويستمر انغلاق النخب الحاكمة وراء أسوار اللغة الأجنبية، وإقصاء الفئات الواسعة من الشعب من تحصيل التربية والتعليم اللائقين. ويتعلق بهذا ما ذكرناه عن التناقض بين خطاب النخب العلني المدافع عن اللغات الوطنية والسلوك الخفي الفعلي الذي يعوق تمكين هذه اللغات بشتى الوسائل، بما في ذلك التضييق المستمر عليها في التعليم والإعلام والاقتصاد، الخ.

3 التبعية الاقتصادية

إن الدول الأفريقية بنخبها تابعة اقتصاديا إلى الدول الغربية. ولهذا الوضع أثر مباشر في أوضاع اللغات الوطنية الأفريقية؛ ومؤشراته النقدية واللغوية، كما يقول كولماس (في كتابه: اللغة والاقتصاد، الصادر في 1992، ص. 58)، “مؤشرات لا تخطئها العين. فالعملة المستقرة لدولة متحررة من الاستعمار ومزدهرة اقتصاديا أمر نادر تماما ندرة وجود لغة وطنية لهذه الدولة، مكرسة للقيام بكل الوظائف التي تقوم بها لغة المستعمر. وهاتان الظاهرتان تشهدان معا على حقيقة كون البنيات التي فرضت على المجتمعات من الخارج لم تمهد الطريق لتنمية تلك البنيات التي حلت محلها، بل ربما أعاقت نموها”. وتخلق التبعية الاقتصادية وضعا تعمل فيه النخبة التابعة – أو “النخبة المنغلقة” – على نهج سياسات لغوية تُمَكِّنُ للأداة اللغوية لهذه التبعية، وهي لغة المستعمِر، في المجالات الحيوية، ومنها التعليم.

ومعروف أن من طرق تدبير هذه التبعية الآلياتُ المندرجة في ما يسمى “مساعدات” أو “دعما”. وفي هذا الإطار غالبا ما ينتقي المركزُ “الْمَانِحُ” مسبقا القطاعَ/أو البرنامجَ الذي يكون موضوعا للمساعدات. وكثيرا ما لا ترد المساعدات إلا عند موافقة البلد الهدف على اتخاذ تدابير اقتصادية وسياسية معينة تعطي المزيد من الامتياز للغة الأجنبية على حساب اللغات الأفريقية. وليس مفاجئا مثلا أن يوضح مسؤولو البنك الدولي في زيارة لإفريقيا الجنوبية قبيل نهاية العمل بالميز العنصري، أن مؤسستهم ليست موافقة على المزيد من الثنائية اللغوية أو التعدد اللغوي؛ وأن المبالغ ليست موجَّهة لتسهيل هذا التعدد اللغوي أو دعمه. وفي مدغشقر في الثمانينيات من القرن الماضي، وبعد النجاح في إقرار لغة وطنية في التعليم الثانوي، هي الملغاشية، اضطرت الدولة في 1988 إلى التراجع والعودة إلى الفرنسية لأنها عجزت ماليا عن إنتاج الكميات الكافية من الكتب المدرسية الثانوية باللغة الملغاشية. أي أن المساعدة الاقتصادية الفرنسية مشروطة بأن تكون موجَّهة إلى دعم اللغة الفرنسية وليس اللغات المحلية؛ وتجلى ذلك بوضوح أيضا في قيام مؤسسات فرنسية بمنح الدولة الملغاشية كتبا مدرسية جديدة بالفرنسية باعتبار ذلك مساعدة تنموية.

إن النخب الإفريقية المعنية بتسلم السلطة بعد انتهاء الاستعمار في الستينيات، لم تكتف بتبني السياساتِ اللغويةَ الاستعمارية الموروثة، بل أيضا المواقفَ السلبية التي طبعت سلوك القوى الاستعمارية تجاه اللغات الوطنية الأفريقية.

ومن مظاهر تبني سياسة المستعمِر اللغوية لدى هذه النخب ما سُمي “حجةَ الفعَّالية” (efficiency argument) لتبرير اعتماد لغة المستعمِر بعد الاستقلال. وهي حجة تندرج في الإطار المشار إليه آنفا، وهو أن النخب اعتبرت التعدد اللغوي مشكلة يجب تجنبها بأي ثمن لضمان السير العادي لشؤون الدولة وتعزيز الوحدة الوطنية والتنمية الاقتصادية. وهو اعتبار مردود كما أسلفنا، وكذلك حجة الفعَّالية المرتبطة به. ولنلاحظ بالمناسبة أن هذه القوى المستعمِرة بالأمس، في الوقت الذي تلح فيه بشدة على الفعَّالية، بخصوص مستعمراتها السابقة، فإنها تناضل من أجل الحفاظ على الاتحاد الأوروبي في وضع تعدد لغوي ما أمكن ذلك. فالتعدد اللغوي في أوروبا فضيلة يُعْتَزُّ بها باعتبارها جزءا من التراث الأوروبي المتميز، بينما يُصَوَّرُ في إفريقيا باعتباره سببا رئيسا من أسباب التخلف والفوضى.
مقالات مختارة/ قراءات افريقية

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *